لَا يَتَوَقَّفُ تَصَوُّرُ الْمَاهِيَّةِ عَلَيْهِ، وَأُجِيبَ عَنْ عَدَمِ جَمْعِهِ بِأَنَّ الصُّورَةَ الْمُقْتَرَضَ بِهَا إنَّمَا هِيَ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعَاتِ، وَإِطْلَاقُ الْقِرَاضِ عَلَيْهَا مَجَازٌ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْقِرَاضُ تَمْكِينُ مَالٍ لِمَنْ يَتَّجِرُ بِهِ بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ لَا بِلَفْظِ إجَارَةٍ فَيَدْخُلُ بَعْضُ الْفَاسِدِ كَالْقِرَاضِ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَيَخْرُجُ عَنْهُ قَوْلُهَا قَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَعْطَى رَجُلًا مَالًا يَعْمَلُ بِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ لِلْعَامِلِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ لَا بَأْسَ بِهِ عِيَاضٌ.
قَالَ سَحْنُونٌ: هُوَ ضَامِنٌ كَالسَّلَفِ فَضْلٌ هَذَا إنْ لَمْ يُشْتَرَطَ أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ إنْ قَالَ: خُذْهُ قِرَاضًا فَهُوَ ضَامِنٌ الْبَاجِيُّ يَجُوزُ شَرْطُ كُلِّ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَإِنْ أُرِيدَ إدْخَالُهُ عَلَى أَنَّهُ قِرَاضٌ قِيلَ: عَقْدٌ عَلَى التَّجْرِ بِمَالِ الْعِوَضِ لَيْسَ مِنْ غَيْرِ رِبْحِهِ انْتَهَى.
وَيَخْرُجُ مِنْ الْأَخِيرِ مَا إذَا شُرِطَ الرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحُكْمُهُ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَوَازِهِ، وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْإِجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ، وَمِنْ السَّلَفِ بِمَنْفَعَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ شُيُوخِنَا: إنَّهُ سُنَّةٌ أَيْ أَبَاحَتْهُ السُّنَّةُ، وَالرُّخْصَةُ فِيهِ جَائِزَةٌ بِالسُّنَّةِ لَا بِمَعْنَى السُّنَّةِ الَّتِي يُحَضُّ عَلَى أَمْثَالِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا أَقُولُ هِيَ سُنَّةٌ انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَقَوْلُ عِيَاضٍ: هِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ السَّلَفِ بِمَنْفَعَةٍ يُرَدُّ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَكُلُّ سَلَفٍ مَضْمُونٌ انْتَهَى.
وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ: قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَالْقِرَاضُ مِمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأُقِرَّ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إلَيْهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَتَنْمِيَتِهَا بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَاضْطُرَّ فِيهِ إلَى اسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَجِدُ مَنْ يَعْمَلُ لَهُ فِيهِ بِإِجَارَةٍ لِمَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ فِيهِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقِرَاضِ فَرُخِّصَ فِيهِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَاسْتُخْرِجَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعِلَّةِ مِنْ الْإِجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ عَلَى نَحْوِ مَا رُخِّصَ فِيهِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَبَيْعِ الْعَرِيَّةِ وَالشَّرِكَةِ فِي الطَّعَامِ وَالتَّوْلِيَةِ فِيهِ انْتَهَى.
(فَائِدَةٌ:) قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: أَوَّلُ قِرَاضٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قِرَاضُ يَعْقُوبَ مَوْلَى الْحَرِقَةِ مَعَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعَثَ مَنْ يُقِيمُ مِنْ السُّوقِ مَنْ لَيْسَ بِفَقِيهٍ فَأُقِيمَ يَعْقُوبُ فِيمَنْ أُقِيمَ فَجَاءَ إلَى عُثْمَانَ فَأَخْبَرَهُ فَأَعْطَاهُ مِزْوَدَتَيْنِ قِرَاضًا عَلَى النِّصْفِ، وَقَالَ: إنْ جَاءَكَ مَنْ يَعْرِضُ لَكَ فَقُلْ لَهُ: الْمَالُ لِعُثْمَانَ فَقَالَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقُمْ فَجَاءَ بِمِزْوَدَيْنِ مِزْوَدِ رَأْسِ الْمَالِ وَمِزْوَدِ رِبْحٍ، وَيُقَالُ: إنَّ أَوَّلَ قِرَاضٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قِرَاضُ عَبْدِ اللَّهِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ ابْنَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خَرَجَا فِي جَيْشٍ إلَى الْعِرَاقِ فَلَمَّا قَفَلَا مَرَّا عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ فَرَحَّبَ بِهِمَا، وَسَهَّلَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَقْدِرُ لَكُمَا عَلَى أَمْرٍ أَنْفَعُكُمَا بِهِ لَفَعَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ هَاهُنَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بِهِ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأُسَلِّفُكُمَاهُ فَتَبْتَاعَانِ بِهِ مَتَاعًا مِنْ مَتَاعِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ تَبِيعَانِهِ بِالْمَدِينَةِ فَتُؤَدِّيَانِ رَأْسَ الْمَالِ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ لَكُمَا الرِّبْحُ فَقَالَا: وَدِدْنَا، فَفَعَلَ وَكَتَبَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا الْمَالَ، فَلَمَّا قَدِمَا بَاعَا فَرَبِحَا فَلَمَّا دَفَعَا ذَلِكَ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: أَكُلَّ الْجَيْشِ أَسْلَفَهُ مِثْلَ الَّذِي أَسْلَفَكُمَا؟ قَالَا: لَا، فَقَالَ عُمَرُ: ابْنَا عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَسْلَفَكُمَا أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ، فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَسَكَتَ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا لَوْ هَلَكَ الْمَالُ أَوْ نَقَصَ لَضَمِنَّاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَدِّيَاهُ فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَاجَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ جَعَلْتُهُ قِرَاضًا فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ جَعَلْتُهُ قِرَاضًا فَأَخَذَ عُمَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَنِصْفَ رِبْحِهِ وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبِيدُ اللَّهِ نِصْفَ الرِّبْحِ انْتَهَى.
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَيُقَالُ: إنَّ الرَّجُلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، ثُمَّ قَالَ سُؤَالٌ أَبُو مُوسَى حَاكِمٌ عَدْلٌ، وَقَدْ تَصَرَّفَ بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَصِيرُ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ بَعْثِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ مُضَافًا إلَى الْحَرَامِ مَنْ يَنْبَغِي إكْرَامُهُ فَهُوَ تَصَرُّفٌ جَامِعٌ لِلْمَصَالِحِ فَيَتَعَيَّنُ تَنْفِيذُهُ وَعَدَمُ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ جَوَابُهُ أَنَّ عَدَمَ التَّعَرُّضِ إنَّمَا هُوَ بَيْنَ النُّظَرَاءِ مِنْ الْأُمَرَاءِ أَمَّا الْخَلِيفَةُ فَلَهُ