وَهُوَ كَالطَّلَاقِ وَلِلطَّلَاقِ تَفْسِيرٌ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مُسَاوَاتُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْبَرَاءَةُ الْوَاحِدَةُ أَوْ الْبَرَاءَاتُ أَقَلَّ مِنْ ذِكْرِ الْحَقِّ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ لِلْمَطْلُوبِ، هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الْأَظْهَرِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا لَا تَكُونُ لَهُ بَرَاءَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ فِي سَمَاعِ يَحْيَى مِنْ الدَّعْوَى وَالصُّلْحِ وَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ، وَأَمَّا إنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ، فَلَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّهَا تَكُونُ لَهُ بَرَاءَةٌ انْتَهَى، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ، وَهُوَ كَالطَّلَاقِ إلَخْ وَنَقَلْت كَلَامَهُ فِي بَابِ الرَّجْعَةِ فَرَاجِعْهُ وَاسْتِظْهَارُ ابْنِ رُشْدٍ هُنَا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ مِنْ الشَّهَادَاتِ مِنْ اسْتِظْهَارِ قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ، فَلَعَلَّهُ رَجَعَ إلَى اسْتِظْهَارِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ هُنَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ ذَلِكَ وَصَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ فِي كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ الْوَدِيعَةِ هُوَ فِي رَسْمِ الْأَقْضِيَةِ.
وَنَصُّهُ وَسُئِلَ مَالِكٌ فَقِيلَ لَهُ كَانَتْ لِي عِنْدَ رَجُلٍ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا وَدِيعَةً فَكُنْتُ آخُذُ مِنْهُ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ حَتَّى بَقِيَتْ لِي عِنْدَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَسَأَلْتُهُ إيَّاهَا، فَقَالَ دَفَعْتُهَا فِي بَعْضِ حَاجَتِي، وَلَكِنْ اُكْتُبْهَا عَلَيَّ فَكَتَبْتُهَا عَلَيْهِ بِالشُّهُودِ وَالْبَيِّنَةِ مُؤَرَّخَةً فَغِبْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَتَقَاضَيْتُهُ إيَّاهَا، فَجَاءَ بِبَرَاءَةٍ مَكْتُوبٍ فِيهَا بَرَاءَةٌ لِفُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ مِنْ أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ لَيْسَتْ الْأَرْبَعَةُ مُؤَرَّخَةً وَلَا مَنْسُوبَةً مِنْ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ وَلَا مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالْعِشْرِينَ فَهُوَ يَقُولُ مِنْ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ وَأَقُولُ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالْعِشْرِينَ الَّتِي كَانَتْ لِي عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ أَكْتُبَ عَلَيْكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ، فَقَالَ أَيُقِرُّ لَك بِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَكَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ فَقَالَ: لَا فَأَطْرَقَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: إنْ أَقَمْت الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا حَلَفْت بِاَللَّهِ مَا هَذِهِ الْبَرَاءَةُ مِنْ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ، وَكَانَتْ لَكَ عَلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ، وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ أَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْبَيِّنَةَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إنَّ الْبَرَاءَةَ لَيْسَتْ مِنْ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ، وَإِنَّهَا مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ، وَلَا قَامَتْ عَلَيْهِ بِهِ بَيِّنَةٌ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ إنَّهَا مِنْ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ بِاتِّفَاقٍ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فِي التَّرْجَمَةِ الَّتِي بَعْدَ تَرْجَمَةِ الْإِقْرَارِ بِالْمَجْهُولِ.
قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ خَمْسِينَ دِينَارًا وَكَتَبَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ آخِرُ حَقٍّ لَهُ قِبَلَهُ، ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ، فَقَالَ هُوَ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ وَقَالَ الْآخَرُ: قَبْلَهَا فَكُلَّمَا أُشْكِلَ مِنْ هَذَا أَهُوَ قَبْلَ الْبَرَاءَةِ أَمْ بَعْدَهَا، فَلَا يُقْضَى بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْرَجَ هَذَا ذِكْرَ حَقٍّ لَا تَارِيخَ فِيهِ، وَبِيَدِ الْآخَرِ بَرَاءَةٌ لَا تَارِيخَ فِيهَا فَالْبَرَاءَةُ أَحَقُّ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا تَارِيخٌ حُكِمَ بِاَلَّذِي فِيهِ التَّارِيخُ، وَبَطَلَ الْآخَرُ انْتَهَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ قَبْلَ تَارِيخِ الْبَرَاءَةِ فَلَا اخْتِلَافَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ بِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَرَاءَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي أَوَّلِ رَسْمٍ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْمِدْيَانِ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ يَمِينٌ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ نَسِيَهُ أَوْ غَلِطَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ النَّوَادِرِ وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي بَابٍ جَامِعٍ فِي الْأَيْمَانِ مِنْ مُقَنَّعِهِ كَلَامَ النَّوَادِرِ بِرُمَّتِهِ، وَقَبْلَهُ، وَرَأَيْت مَكْتُوبًا عَلَى هَامِشِ نُسْخَتِهِ الَّتِي بِيَدِهِ مَا صُورَتُهُ فِي هَذَا خِلَافٌ فِي لُحُوقِ الْيَمِينِ وَبِلُحُوقِهَا الْعَمَلُ.
اُنْظُرْ نَوَازِلَ ابْنِ الْحَاجِّ وَالْمُفِيدِ وَالْفَتْحُونِيَّة فَانْظُرْهُ وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَالْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دَعْوَاهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَاتٍ فِي تَرْجَمَةِ مُبَارَأَةِ الْوَصِيِّ، فَهُوَ بَعِيدٌ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ بَعْدَ تَارِيخِ الْبَرَاءَةِ بَلْ أُشْكِلَ أَمْرُهُ أَكَانَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا إمَّا لِكَوْنِهِمَا مُؤَرَّخَيْنِ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ أَوْ عَارِيَّيْنِ مِنْ التَّارِيخِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُؤَرَّخٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُؤَرَّخٍ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ الطَّالِبُ أَنَّهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ أَوْ يَقُولَ لَا عِلْمَ لِي فَإِنْ حَقَّقَ أَنَّهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ فَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَابْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِمَا.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: فِي رَسْمِ الْكِرَاءِ