رُوِيَ «أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ تَقَاضَى مِنْ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ: يَا كَعْبُ فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ، فَقَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْت فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُمْ فَاقْضِهِ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ لِمَا صَرَّحَ بِهِ الْعَامَّةُ مِنْ قَوْلِهَا: " خَيْرُ الصُّلْحِ الشَّطْرُ وَلَا صُلْحَ إلَّا بِوَزْنٍ " اهـ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُوَ أَيْ الصُّلْحُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَقَدْ يَعْرِضُ وُجُوبُهُ عِنْدَ تَعْيِينِ مَصْلَحَةٍ وَحُرْمَتِهِ وَكَرَاهَتِهِ لِاسْتِلْزَامِهِ مَفْسَدَةً وَاجِبَةَ الدَّرْءِ، أَوْ رَاجِحَتُهُ كَمَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ لِلَّخْمِيِّ وَغَيْرِهِ ابْنُ رُشْدٍ لَا بَأْسَ بِنَدْبِ الْقَاضِي الْخَصْمَيْنِ إلَيْهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْحَقُّ لِأَحَدِهِمَا؛ لِقَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: احْرِصْ عَلَى الصُّلْحِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ فَصْلُ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ فِي بَعْضِ الْمُذَاكَرَاتِ: لَا بَأْسَ بِهِ بَعْدَ الْبَيِّنَتَيْنِ إنْ كَانَ أَرْفَقَ بِالضَّعِيفِ مِنْهُمَا كَالنَّدْبِ لِصِدْقِهِ عَلَيْهِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُوهِمُ ثُبُوتَ الْحَقِّ عَلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ، أَوْ سُقُوطَهُ لَهُ بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ ابْنُ رُشْدٍ إنْ أَبَاهُ أَحَدُهُمَا فَلَا يُلِحُّ عَلَيْهِمَا إلْحَاحًا يُوهِمُ الْإِلْزَامَ.
(قُلْت) وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ قُضَاةِ طَرَابُلُسَ جَبْرُهُ عَلَيْهِ فَعُزِلَ اهـ.
ص (عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعِي بَيْعٌ)
ش: قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي وَالْخَمْسِينَ: وَالصُّلْحُ بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ إنْ وَقَعَ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَكَذَا إنْ وَقَعَ عَلَى الْإِنْكَارِ عِنْدَ مَالِكٍ لِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَيْعِ اهـ. وَقَالَهُ فِيهَا أَيْضًا وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُصَالِحِ، وَالْمُصَالَحِ أَهْلِيَّةُ الْمُعَامَلَةِ اهـ.
(تَنْبِيهٌ) يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الْمَجْهُولِ إذَا جُهِلَ الْقَدْرُ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْدِرَا عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَأَمَّا إذَا قَدَرَا عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْمَعْرِفَةِ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ قَالَ فِي آخِرِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ بِيَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهُ فَإِنْ جَهِلَاهُ جَمِيعًا جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَرَفَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ مِنْهَا فَلْيُسَمِّهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ بَطَلَ الصُّلْحُ وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ، وَالزَّوْجَةُ إنْ صَالَحَتْ الْوَرَثَةَ عَلَى مِيرَاثِهَا فَإِنْ عَرَفَتْ هِيَ وَجَمِيعُ الْوَرَثَةِ مَبْلَغَ التَّرِكَةِ جَازَ الصُّلْحُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوهُ لَمْ يَجُزْ اهـ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ إثْرَ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ اُنْظُرْ قَالَ هُنَا إنْ جَهِلَاهُ جَمِيعًا جَازَ وَتَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَمِيلِ قَالَ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَعْلَمَا مَا عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَفِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ قَالَ: مَنْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ مَوْرُوثَهُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَإِنْ عَرَفَا جَمِيعًا مَبْلَغَهُ جَازَ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ: وَمَنْ لَكَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ نَسِيتُمَا مَبْلَغَهَا جَازَ أَنْ تُصَالِحَا عَلَى مَا شِئْتُمَا مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ وَرِقٍ فَمَسْأَلَةُ كِتَابِ الصُّلْحِ، وَمَسْأَلَةُ مَنْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ مُخَالِفَةٌ لِهَذِهِ النَّظَائِرِ، وَمِثْلُ مَسْأَلَةِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ لَا يَعْرِفَانِ كَيْلَهَا، وَمِثْلُهُ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُتَجَاعِلَيْنِ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ إنْ جَهِلَا مَعًا صِفَةَ الْأَرْضِ جَازَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَقْدِرَانِ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ عَلَى مَعْنَى التَّحَلُّلِ إذْ هُوَ أَكْثَرُ الْمَقْدُورِ.
وَقَوْلُهُ: وَالزَّوْجَةُ إذَا صَالَحَتْ الْوَرَثَةَ عَلَى مِيرَاثِهَا فَإِنْ عَرَفَتْ هِيَ وَالْوَرَثَةُ مَبْلَغَ التَّرِكَةِ جَازَ الصُّلْحُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْمَعْرِفَةِ اهـ. وَنَحْوُهُ لِابْنِ نَاجِي، وَنَصُّهُ إثْرَ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ الْمُتَقَدِّمِ قَوْلُهُ: وَمَنْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ بِيَدِ رَجُلٍ إلَخْ، وَعَرَفَاهُ جَمِيعًا.
(قُلْت) قَالَ فَضْلٌ: إنَّمَا يَجُوزُ إذَا جَهِلَاهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّحَلُّلِ وَمِثْلُهُ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى دَرَاهِمَ لَا يَعْرِفَانِ عَدَدَهَا وَمِثْلُهُ بَيْعُ الصُّبْرَةِ لَا يَعْرِفَانِ كَيْلَهَا.
وَمِثْلُهُ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُتَجَاعِلَيْنِ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ إنْ جَهِلَا جَمِيعًا الْأَرْضَ جَازَ قِيلَ وَلَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِنَا أَوَّلَ مَسْأَلَةٍ مِنْ كِتَابِ الْقَسْمِ، قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ مَوْرُوثَهُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَإِنْ عَرَفَا مَبْلَغَهُ جَازَ، وَإِنْ جَهِلَهُ أَحَدُهُمَا، أَوْ كِلَاهُمَا لَمْ يَجُزْ، وَالْفَرْقُ أَنَّ بَيْعَ الْمِيرَاثِ اخْتِيَارِيٌّ يَقْدِرَانِ عَلَى رَفْعِ الْغَرَرِ مِنْهَا وَيَتَوَصَّلَانِ إلَى مَعْرِفَةِ النَّصِيبِ وَمَا هُنَا مَعَ مَا نَظَرُهُ بِهِ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى رَفْعِ الْغَرَرِ فَصَارَتْ صُورَةُ ضَرُورَةٍ فَيَتَحَلَّلُ مِنْهُ وَقَوْلُهُ: " وَالزَّوْجَةُ