مِنْ الِانْتِفَاعِ بِتِلْكَ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ إلَى آخِرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ فِي الْعَيْنِ وَلَيْسَ هُوَ التَّصَرُّفُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ التَّصَرُّفُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَخْصُوصٌ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ كَهَدْمِ الدَّارِ وَبُنْيَانِهَا وَزَرْعِ الْأَرْضِ وَحَرْثِهَا وَتَقْطِيعِ الثِّيَابِ وَخِيَاطَتِهَا وَطَحْنِ الْقَمْحِ وَغَيْرِهِ وَذَبْحِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ وَكُلِّ شَيْءٍ أُذِنَ فِي التَّصَرُّفِ لَهُ بِهِ تَصَرُّفٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَالْفَاعِلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمُتَصَرِّفُ التَّصَرُّفَ الْحَقِيقِيَّ الْمُطْلَقَ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَمَّا تَصَرُّفُ الْعِبَادِ وَأَفْعَالُهُمْ؛ فَإِنَّمَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ بِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ مِنْهَا شَيْءٌ خَلَقَ ذَلِكَ التَّأْثِيرَ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْجَوَازُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَتَهُ مَعْلُومَةٌ لِكُلِّ النَّاسِ فَحُكْمُهُ مِنْ الْإِبَاحَةِ مَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَالِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ وَالْمَجَالِسِ إنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّكِ بِذِكْرِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مَعَ تَمْرِينِ الطَّلَبَةِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ اهـ، وَدَلِيلُهُ مِنْ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وَمِنْ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ بَيْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشِرَائِهِ وَإِذْنِهِ فِي الْبَيْعِ وَوُقُوعِهِ بِحَضْرَتِهِ، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَادِيثَ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَمْ مَنَعُوهُ» وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» وَهَذَا مَوْضِعُ الدَّلِيلِ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الْكَسْبِ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَالْبَيْعُ الْمَبْرُورُ الَّذِي بَرَّ فِيهِ صَاحِبُهُ فَلَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِيهِ وَلَا بِهِ وَلَا مَعَهُ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَعَزَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ لِلتِّرْمِذِيِّ قَالَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى شِرَاءِ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالنَّدْبُ كَمَنْ أَقْسَمَ عَلَى إنْسَانٍ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً لَا ضَرُورَةَ عَلَيْهِ فِي بَيْعِهَا فَيُنْدَبُ إلَى إجَابَتِهِ؛ لِأَنَّ إبْرَارَ الْمُقْسِمِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ ضَرُورَةٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ، وَتَعْرِضُ لَهُ الْكَرَاهَةُ كَبَيْعِ الْهِرِّ وَالسِّبَاعِ لَا لِأَخْذِ جُلُودِهَا، وَالتَّحْرِيمُ كَالْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا.
وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ الرِّفْقُ بِالْعِبَادِ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى حُصُولِ الْمَعَاشِ وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنْ احْتِكَارِ مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ، قَالَ فِي كِتَابِ التِّجَارَةِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ، قَالَ مَالِكٌ وَالْحُكْرَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ إدَامٍ أَوْ كَتَّانٍ أَوْ صُوفٍ أَوْ عُصْفُرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَمَا كَانَ احْتِكَارُهُ يَضُرُّ بِالنَّاسِ مُنِعَ مُحْتَكِرُهُ مِنْ الْحُكْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ وَلَا بِالْأَسْوَاقِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: «لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ» هَذَا الْحَدِيثُ بِحُكْمِ إطْلَاقِهِ أَوْ عُمُومِهِ يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِكَارِ فِي كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ قَدْ يُقَيَّدُ وَالْعُمُومَ قَدْ يُخَصَّصُ بِمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّهُ قَدْ ادَّخَرَ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَا يَدَّخِرُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مِنْ قُوتٍ وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ جَائِزٌ، وَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِذَا مَقْصُودُ هَذَا مَنْعُ التُّجَّارِ مِنْ الِادِّخَارِ، ثُمَّ هَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ ادِّخَارِ كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ وَذَكَرَ الْخِلَافَ ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ هَذَا فِيمَنْ اشْتَرَى فِي الْأَسْوَاقِ، فَأَمَّا مَنْ جَلَبَ طَعَامًا؛ فَإِنْ شَاءَ بَاعَ، وَإِنْ شَاءَ احْتَكَرَ إلَّا إنْ نَزَلَتْ حَاجَةٌ فَادِحَةٌ أَوْ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَهُ بِسِعْرِ وَقْتِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أُجْبِرَ عَلَى