فِي آخِرِ شَرْحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ بِالِاسْتِيطَانِ فَلَا وَجْهَ لَهُ انْتَهَى.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ وَكَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَتْ غَيْبَةُ الْأَبِ عَنْ ابْنَتِهِ غَيْبَةَ انْقِطَاعٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ طَالَتْ إقَامَتُهُ بِحَيْثُ لَا يُرْتَجَى قُدُومُهُ بِسُرْعَةٍ غَالِبًا، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ وَنِيَّتُهُ الْعَوْدُ وَلَمْ تَطُلْ إقَامَتُهُ فَلَا تُزَوَّجُ ابْنَتُهُ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّجْرَاجِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا وَرُبَّمَا يُسْتَرْوَحُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَتُؤُوِّلَتْ أَيْضًا بِالِاسْتِيطَانِ قَالَ الرَّجْرَاجِيُّ: غَيْبَةُ الْأَبِ عَنْ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ: غَيْبَةُ انْقِطَاعٍ، وَغَيْبَةُ ارْتِجَاعٍ، وَغَيْبَةُ انْقِطَاعٍ بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ وَالِاضْطِرَارِ، أَوْ عَلَى مَعْنَى التَّرَفُّهِ وَالِاخْتِيَارِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَعْنَى الْغَلَبَةِ وَالِاضْطِرَارِ كَالْأَسِيرِ فَإِنْ كَانَتْ الْبِنْتُ فِي حِرْزٍ وَتَخْصِيصٍ وَنَفَقَةٍ جَارِيَةٍ وَلَمْ تَدْعُ إلَى النِّكَاحِ فَلَا تُزَوَّجُ فِي غَيْبَةٍ؛ إذْ لَا يُجْبِرُهَا سِوَاهُ وَإِنْ دَعَتْ إلَى النِّكَاحِ؛ زُوِّجَتْ إنْ كَانَتْ بَالِغَةً وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ حِرْزٍ وَتَحْصِينٍ، أَوْ كَانَتْ فِي حِرْزٍ وَلَا كِفَايَةَ وَلَا مُؤْنَةَ مَعَهَا فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ إذَا خُشِيَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ وَالضَّيْعَةُ دَعَتْ إلَى النِّكَاحِ أَمْ لَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْبَةُ الِانْقِطَاعِ عَلَى مَعْنَى التَّرَفُّهِ وَالِاخْتِيَارِ؛ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تُعْلَمَ حَيَاتُهُ، أَوْ تُجْهَلَ فَإِنْ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ وَكَانَ مَوْضِعُهُ قَرِيبًا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي إنْكَاحِ بَنَاتِهِ دُعَوْنَ إلَى ذَلِكَ أَمْ لَا إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ ضَرَرُهُ بِهِنَّ فَيَكُونُ كَالْعَاضِلِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ إمَّا أَنْ يُزَوِّجَهَا وَإِلَّا زَوَّجَهَا عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَإِنْ كَانَ بَعِيدَ الْغَيْبَةِ كَالْأَنْدَلُسِ مِنْ الْمَدِينَةِ فَالْمَذْهَبُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تُزَوَّجُ بِلَا تَفْصِيلٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ.
(وَالثَّانِي) أَنَّهَا لَا تُزَوَّجُ إلَّا أَنْ يُخْشَى عَلَيْهَا الْفَسَادُ وَالضَّيْعَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: وَإِنْ جُهِلَتْ حَيَاتُهُ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْإِمَامُ يَنْظُرُ لَهَا وَيَعْقِدُ عَلَيْهَا وَلِمَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَخَ يُزَوِّجُهَا بِرِضَاهَا وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَفْقُودِ هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَيِّ، أَوْ الْمَيِّتِ؟ وَأَمَّا إنْ كَانَتْ غَيْبَةُ الْأَبِ غَيْبَةَ ارْتِجَاعٍ كَمَنْ خَرَجَ لِتِجَارَةٍ، أَوْ لِطَلَبِ حَاجَةٍ فَلَا إشْكَالَ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِلنَّظَرِ فِي أُمُورِ بَنَاتِهِ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ هُوَ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَيُعْتَبَرُ فِي غَيْبَةِ أَبِي الْبِكْرِ إلَى مِثْلِ إفْرِيقِيَّةَ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: لِغَيْرِ تِجَارَةٍ مِمَّا لَوْ خَرَجَ إلَى تِجَارَةٍ فَإِنَّهَا لَا تُزَوَّجُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا أَنْ يَرْجِعَ عَاجِلًا انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَمُرَادُ الْمُؤَلِّفِ بِقَوْلِهِ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ مَا قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ غَيْبَةُ انْقِطَاعٍ لَكِنْ فِيهِ مُسَامَحَةٌ؛ لِأَنَّ غَيْرَ التِّجَارَةِ أَعَمُّ مِنْ الِانْقِطَاعِ وَمِثْلُ مَا قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْمَوَّازِ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ انْتَهَى فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَزَوَّجَ الْحَاكِمُ فِي كَإِفْرِيقِيَّةَ مَا إذَا كَانَتْ غَيْبَتُهُ غَيْبَةَ انْقِطَاعٍ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُرْجَى عَوْدُهُ بِسُرْعَةٍ غَالِبًا وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الِاسْتِيطَانُ الَّذِي هُوَ السُّكْنَى بِنِيَّةِ عَدَمِ الِانْتِقَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَابْنِ الْحَاجِبِ فِيمَنْ خَرَجَ لِتِجَارَةٍ لَا تُزَوَّجُ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا لَمْ تَطُلْ إقَامَتُهُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ فِي التَّوْضِيحِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَرْجِعَ عَاجِلًا وَيُفْهَمُ أَيْضًا ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْآتِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهَا تُزَوَّجُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الرَّاجِحِ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَةُ الْأَبِ جَارِيَةً عَلَيْهَا وَلَمْ يُخَفْ عَلَيْهَا الضَّيْعَةَ إنَّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَتْ بَالِغَةً، أَمَّا إذَا كَانَتْ دُونَ الْبُلُوغِ وَنَفَقَتُهُ جَارِيَةً عَلَيْهَا وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا الْفَسَادَ فَلَا تُزَوَّجُ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْيَتِيمَةَ إذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ؛ فَلَا تُزَوَّجُ فَأَحْرَى الَّتِي أَبُوهَا حَيٌّ، نَعَمْ إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ، أَوْ انْقَطَعَتْ عَنْهَا النَّفَقَةُ فَتُزَوَّجُ حِينَئِذٍ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ اللَّخْمِيُّ وَنَقَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ اللَّخْمِيُّ إذَا كَانَ سَفَرُ الْأَبِ قَرِيبًا لَمْ تُزَوَّجْ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَعِيدًا، أَوْ أُسِرَ، أَوْ فُقِدَ وَهِيَ فِي حَالِ صِيَانَةٍ وَلَمْ تَدْعُ إلَى التَّزْوِيجِ فَإِنْ دَعَتْ إلَيْهِ وَلَمْ تَكُنْ مِنْهُ نَفَقَةٌ وَهِيَ تَحْتَ حَاجَةٍ؛ زُوِّجَتْ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ جَارِيَةً عَلَيْهَا وَكَانَ أَسِيرًا، أَوْ فَقَيْدًا زُوِّجَتْ