مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَلَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْوُلَاةِ فَإِنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْبَرَاءَةَ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلَ، وَلَوْ كَانَ سَبَبُ التُّهْمَةِ ظَاهِرًا انْتَهَى.
وَقَبِلَهُ فِي التَّوْضِيحِ وَجَعَلَ ابْنُ عَرَفَةَ الْخِلَافَ فِيمَنْ حُبِسَ بِتُهْمَةٍ وَجَعَلَ قَوْلَ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ مَنْ حُبِسَ ظُلْمًا بِغَيْرِ تُهْمَةٍ، وَلَا سَبَبٍ، فَهُوَ كَالْعَدُوِّ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ أَنَّهُ يَعْمَلُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ حُبِسَ فِي حَقٍّ مِنْ دَيْنٍ، أَوْ قِصَاصٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ إذْ لَا عُذْرَ لَهُ فِي حَبْسِهِ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ، أَوْ حُبِسَ عُدْوَانًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ أَحَاطَ الْعَدُوُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ انْتَهَى.
فَتَأَمَّلْهُ، وَنَصُّ كَلَامِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الْحَجِّ الثَّانِي قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كُنْتُ عِنْدَ مَالِكٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، فَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ اُتُّهِمُوا بِدَمٍ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَحُبِسُوا فِي الْمَدِينَةِ فَقَالَ: لَا يُحِلُّهُمْ إلَّا الْبَيْتُ، وَلَا يَزَالُونَ مُحْرِمِينَ حَتَّى يُقْتَلُوا، أَوْ يُخَلَّوْا فَيَحِلُّوا بِالْبَيْتِ انْتَهَى.
وَذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ رَسْمِ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، وَنَصُّهَا: سَمِعْتُ مَالِكًا وَسُئِلَ عَنْ مُحْرِمَيْنِ خَرَجَا إلَى الْحَجِّ حَتَّى إذَا كَانَا بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِالْجُحْفَةِ اُتُّهِمَا بِقَتْلِ رَجُلٍ وُجِدَ قَتِيلًا، فَأُخِذَا فَرُدَّا إلَى الْمَدِينَةِ فَحَبَسَهُمَا عَامِلُ الْمَدِينَةِ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَزَالَانِ مُحْرِمَيْنِ حَتَّى يَطُوفَا بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَيَا وَأَرَاهُمَا مِثْلَ الْمَرِيضِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: زَادَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ مَالِكٍ أَوْ يَثْبُتُ عَلَيْهِمَا مَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِمَا، فَيُقْتَلَانِ، وَهُوَ تَمَامُ الْمَسْأَلَةِ انْتَهَى.
(قُلْت) : قَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي نَصِّ الْمُدَوَّنَةِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إنَّمَا رَآهُمَا كَمَنْ حُصِرَ بِمَرَضٍ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا حُبِسَا بِالْحُكْمِ الَّذِي، أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَانَ كَالْمَرَضِ الَّذِي هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَوْ حُبِسَا ظُلْمًا وَعَدَاءً لَكَانَ حُكْمُهُمَا حُكْمَ الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ، وَيَحِلَّانِ مَوْضِعَهُمَا الَّذِي حُبِسَا فِيهِ، وَيَحْلِقَانِ، وَيَنْحَرَانِ هَدْيًا إنْ كَانَ مَعَهُمَا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ مَالِكٍ انْتَهَى مُخْتَصَرًا.
(فَرْعٌ) : قَالَ فِي سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ مِنْ كِتَابِ الْقَذْفِ مِنْ الْبَيَانِ فِيمَنْ زَنَى، وَكَانَ بِكْرًا وَأُخِذَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ وَيَبْقَى وَلَوْ كَانَ بِمَكَّةَ وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الْحَجِّ ابْنُ رُشْدٍ؛ لِأَنَّ التَّغْرِيبَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، فَتَعْجِيلُهُ وَاجِبٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَخَّرَ لِأَجْلِ إحْرَامِهِ، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا أَحْرَمَ فِرَارًا مِنْ السِّجْنِ، وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ إذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ أَسْرَعَ الْجَوَابَ وَأَظْهَرَ السُّرُورَ، وَقَالَ بَلَغَنِي أَنْ يُقَالَ لَحَدٌّ يُقَامُ بِأَرْضٍ خَيْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَإِذَا سُجِنَ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ انْتَهَى.
ص (إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ)
ش: أَيْ بِالْمَنْعِ، وَيَعْنِي أَنَّ مَنْ أُحْصِرَ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّحَلُّلُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُ سَوَاءٌ عَلِمَ بِالْعَدُوِّ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَأَحْرَى إذَا طَرَأَ بَعْدَ إحْرَامِهِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ حَالَاتٍ الَّتِي ذَكَرَ اللَّخْمِيُّ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِحْلَالُ فِيهَا، وَهِيَ مَا إذَا طَرَأَ الْعَدُوُّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، أَوْ طَرَأَ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، أَوْ عَلِمَ بِهِ وَكَانَ يَرَى أَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَهُ هَكَذَا نَقَلَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ عَنْ اللَّخْمِيِّ، وَمَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِالْمَنْعِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِحْلَالُ، وَهُوَ كَذَلِكَ نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ اللَّخْمِيِّ وَالْبَاجِيِّ
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) : يَدْخُلُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَهُ، أَوْ ظَنَّ ذَلِكَ، أَوْ شَكَّ فِيهِ، أَوْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَنَعُوهُ أَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَهُ، فَلَا كَلَامَ، وَأَمَّا إذَا ظَنَّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعِلْمِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ وَنَصُّهُ: مَوَانِعُ الْحَجِّ سِتَّةً (الْأَوَّلُ) : الْعَدُوُّ وَالْفِتَنُ وَهُوَ مُبِيحٌ لِلتَّحَلُّلِ وَنَحْرِ الْهَدْيِ حَيْثُ كَانَ إذَا طَرَأَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، أَوْ كَانَ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُمْ لَا يَصُدُّونَهُ انْتَهَى. .
فَأَحْرَى إذَا كَانَ أَوَّلًا عَالِمًا بِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا إنْ عَلِمَ مَنْعَهُمْ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِحْلَالُ نَقَلَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ انْتَهَى.
وَأَمَّا إذَا شَكَّ فِي مَنْعِهِمْ إيَّاهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ فَنَقَلَ فِي التَّوْضِيحِ وَالْمَنَاسِكِ عَنْ اللَّخْمِيِّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْإِحْلَالُ، وَنَصُّهُ: قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَإِنْ شَكَّ فِي مَنْعِهِمْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْإِحْلَالُ، ثُمَّ قَالَ خَلِيلٌ: وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ شَرْطَ الْإِحْلَالِ لَا يُفِيدُ انْتَهَى