بِشَرْطِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ فَإِنْ تَرَكَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَهُوَ عَاصٍ وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يُنْفِقُهُ فِيهِ وَيُحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ هُوَ بِهَا مُتَطَوِّعٌ وَالْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَالتَّطَوُّعُ لَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْوَاجِبِ وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْفِيرُ وَالِاحْتِيَالُ فِي تَحْصِيلِ مَا يَجِبُ بِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ، مَنْ يَذْهَبُ إلَى بَعْضِ النَّاسِ لِيَحُجَّ بِهِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ كَانَتْ بَرِيئَةً فَيُدْخِلُ نَفْسَهُ فِيمَا لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَيَتَحَمَّلُ الْمِنَّةَ وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَطْلُبُ مِنْ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ هِجْرَانُهُمْ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِطُغْيَانِهِمْ؛ لِكَوْنِهِمْ يَرَوْنَ مَنْ يَقْتَدُونَ بِهِ يُعَامِلُهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ قَالَ فِي الْمَدْخَلِ: وَيَطْلُبُ مِنْ فَضَلَاتِ أَوْسَاخِهِمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ الْقَذِرَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ الْجَهْلُ فَتُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّهُ فِي طَاعَةٍ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يُطَاعَ اللَّهُ بِمَالٍ حَرَامٍ، قَالَ فِي الْمَدْخَلِ: أَوْ يَغُرُّهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ عَلَى طَاعَةٍ وَخَيْرٍ وَهُوَ عَلَى الْعَكْسِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ الْوُقُوفُ عَلَى أَبْوَابِهِمْ وَبَعْضٌ مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُمْ يَعِدُهُمْ بِالدُّعَاءِ فِي الْأَمَاكِنِ الشَّرِيفَةِ، وَبَعْضُهُمْ قَدْ اتَّخَذَ ذَلِكَ دُكَّانًا يُجْبَى مِنْهُمْ بَدَاةً كَمَا تَقَدَّمَ وَعَوْدَةً بِأَنْ يُهْدَى لَهُمْ وَهُوَ يَطْلُبُ مِنْهُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَبَعْضُهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ؛ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إلَيْهِمْ فَيَتَشَفَّعُوا عِنْدَهُمْ بِمَنْ يَرْجُو أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ وَيَرْجِعُوا إلَى قَوْلِهِ وَيَنْتَهِي الشَّافِعُ عَلَى مَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُمْ، إذْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ يَتَعَطَّفُوا بِالدَّفْعِ إلَيْهِ فَيَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، انْتَهَى.
كَلَامُهُ فِي الْمَنَاسِكِ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ وَذَكَرَ فِي الْمَدْخَلِ حِكَايَاتٍ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ يَعْنِي ابْنَ جَمْرَةَ نَفَعَنِي اللَّهُ بِبَرَكَاتِهِ وَبِعُلُومِهِ وَالْمُسْلِمِينَ يَحْكِي أَنَّ شَابًّا مِنْ الْمَغَارِبَةِ جَاءَ إلَى الْحَجِّ فَلَمَّا وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْبِلَادِ فَرَغَ مَا بِيَدِهِ وَكَانَ يُحْسِنُ الْخَيَّاطَةَ فَجَاءَ إلَى خَيَّاطٍ وَجَلَسَ يَخِيطُ عِنْدَهُ بِالْأُجْرَةِ وَكَانَ عَلَى دِينٍ وَخَيْرٍ وَكَانَ جُنْدِيٌّ يَأْتِي إلَى الدُّكَّانِ فَيَقْعُدُ عِنْدَهُمْ فَيَتَكَلَّمُونَ وَهُوَ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ بَلْ مُقْبِلٌ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ؛ فَحَصَلَ لَهُ فِيهِ حُسْنَ ظَنٍّ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ أَوَانُ خُرُوجِ الرَّكْبِ إلَى الْحَجِّ سَأَلَهُ الْجُنْدِيُّ لَمْ لَا تَحُجَّ؟ قَالَ: لَيْسَ لِي شَيْءٌ أَحُجُّ بِهِ، فَجَاءَهُ الْجُنْدِيُّ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: خُذْ هَذِهِ؛ فَحَجَّ بِهَا فَرَفَعَ الشَّارِبُ رَأْسَهُ إلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: كُنْتُ أَظُنُّك مِنْ الْعُقَلَاءِ، فَقَالَ: وَمَا رَأَيْت مِنْ عَدَمِ عَقْلِي؟ فَقَالَ لَهُ: أَنَا أَقُولُ لَك: كُنْتُ فِي بَلَدِي بَيْنَ أَهْلِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ الْحَجَّ فَلَمَّا أَنْ وَصَلْت إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَسْقَطَهُ عَنِّي لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِي جِئْت أَنْتَ بِدَرَاهِمِك تُرِيدُ أَنْ تُوجِبَ عَلَيَّ شَيْئًا أَسْقَطَهُ اللَّهُ عَنِّي، وَذَلِكَ لَا أَفْعَلُهُ أَوْ كَمَا قَالَ وَقَدْ كَانَ أَيْضًا جَاءَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ جَاءَ إلَى هَذِهِ الْبِلَادِ فَفَرَغَ مَا بِيَدِهِ فَبَقِيَ يَعْمَلُ بِالْقِرْبَةِ عَلَى ظَهْرِهِ وَكَانَ يَحْصُلُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَأَقَلُّ وَأَكْثَرُ فَيَأْكُلُ مِنْهَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي، وَكَانَ لَهُ مَالٌ بِبَلَدِهِ فَجَاءَ بَعْضُ مَعَارِفِهِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَمْضِيَ مَعَهُمْ إلَى الْحِجَازِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيَّ الْحَجَّ إلَّا لِعَدَمِ قُدْرَتِي عَلَى الزَّادِ، وَمَا أَحْتَاجُهُ فِي الْحَجِّ فَقَالُوا لَهُ: خُذْ مِنَّا مَا تَخْتَارُ، فَقَالَ: لَمْ يَجِبُ عَلَيَّ ذَلِكَ وَلَمْ أُنْدَبْ إلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نُقْرِضُك إلَى أَنْ تَرْجِعَ إلَى بَلَدِك، فَقَالَ: وَمَنْ يَضْمَنُ لِي الْحَيَاةَ حَتَّى تَأْخُذُوا قَرْضَكُمْ فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نَجْعَلُك فِي حِلٍّ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا يَجِبُ عَلَيَّ ذَلِكَ وَلَا أَنْدُبُ إلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ: فَوَفِّرْ مِمَّا تَحْصُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ مَا تَحُجُّ بِهِ وَتَرْجِعُ إلَى بِلَادِك وَمَالِك، فَقَالَ لَهُمْ: تَفُوتُنِي حَسَنَاتٌ مُعَجَّلَةٌ لِشَيْءٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ الْآنَ، وَلَا أَدْرِي هَلْ أَعِيشُ إلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ أَمْ لَا أَوْ كَمَا قَالَ: وَقَدْ مَنَعَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ بَعْضَ مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِ مِنْ حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ قَرْضًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ بَلَدِهِ مَعَ رَغْبَةِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي ذَلِكَ وَتَلَهُّفِهِ عَلَيْهِ وَصَبْرِهِ إلَى أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَالِ الْمُقْتَرِضِ فِي بَلَدِهِمْ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ وَعَلَّلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عِمَارَةُ الذِّمَّةِ بِشَيْءٍ لَا يَدْرِي هَلْ يَفِي بِهِ