• ومن مواعظ أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - (?): أنَّه قام يومًا عند الكعبة فقال:
«يا أيُّها الناس، أنا جندبٌ الغفاريُّ، هلمُّوا إلى الأخ الناصح الشفيق»، فاكتنفه الناس، فقال:
«أرأيتم لو أنَّ أحدكم أراد سفرًا، أليس يتَّخذ من الزاد ما يصلحه ويبلِّغه؟» قالوا: بلى، قال: «فسفر طريق القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا منه ما يصلحكم»، قالوا: وما يصلحنا؟ قال:
«حجُّوا حجَّةً لعظام الأمور، صوموا يومًا شديدًا حرُّه لطول النُّشور، صلُّوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خيرٍ تقولها أو كلمة سوءٍ تسكت عنها لوقوف يومٍ عظيمٍ، تصدَّق بمالك لعلَّك تنجو من عسيرها- أي: عسير الدُّنيا- اجعل الدُّنيا مجلسين: مجلسًا في طلب الآخرة، ومجلسًا في طلب الحلال، والثالث يضرُّك ولا ينفعك، لا تريده.
اجعل المال درهمين: درهمًا تنفقه على عيالك من حلِّه، ودرهمًا تقدِّمه لآخرتك، والثالث يضرُّك ولا ينفعك، لا تريده». ثم نادى بأعلى صوته: «يا أيُّها الناس، قد قتلكم حرصٌ لا تدركونه أبدًا!».هذه ثمان وصايا، يجمعها النصح والشفقة، والاستعداد للدَّار الخالدة الآخرة، وفيها من التوازن في أمر الدُّنيا والآخرة، كما هو فقه الصحابة - رضي الله عنهم - في هذه الأبواب، فعندهم من العلم ما يمنعهم من التزهيد في الدُّنيا تزهيدًا غير منضبطٍ، وعندهم من الفقه ما يجعلهم يحذِّرون من الانغماس الشديد في الدُّنيا انغماسًا ينسي العبد ما خُلِقَ له، دليلهم في هذا تلك القاعدة القرآنيَّة العظيمة: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ