أَزِنُ لَكَ، قَالَ: لا. فَقَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْخُذِيهِ، فَتَجْعَلَيْهِ هَكَذَا، وَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِي صِدْغَيْهِ وَتَمْسَحِي بِهِ فِي عُنُقِكِ فَأُصِيبُ فَضْلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ يُوزَنُ بَيْنَ يَدَيّ عُمَرَ بِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِسْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَسَدَّ أَنْفُهُ بِيَدِهِ؛ حَتَّى لا تُصِيبُهُ الرَّائِحَةَ، وَقَالَ: وَهَلْ يَنْتَفِعَ مِنْهُ إِلا بِرِيحِهِ. قَالَ ذَلِكَ لَمَّا اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ وَرَعِ الْمُتَقِينَ.
قُلْتُ: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يِتَّصِفَ بِهِ أَيْضًا قَطْعُ الْعَلائِقِ حَتَّى لا يِكْثُرَ خَوْفُهُ، وَيَقْطَعَ الطَّمَعَ عَنْ الخْلائِقِ فَلا يَكُونُ لَهُ عِنْدَهُمْ حَاجَةٌ تُذِلَّهُ لَهُمْ، وَتَدْعُوهُ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ، وَالإِغْضَاءِ عَنْ أَعْمَالِهُمْ الْقَبِيحَةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهمْ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} . {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
شِعْرًا: ... وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وِفِي الْمَالِ قِلْةٌ ... وَلَنْ يَقْضِي الْحَاجَاتِ إِلا الْمُهَيْمِنِ
آخر: ... إِنْ حَالَ دُونَ لِقَاءِكِمْ بَوَّابُكُمْ ... فَاللهُ لَيْسَ لِبَابِهِ بَوَّابٌ
آخر: ... فَاضْرَعْ إِلَى اللهِ لا تَضْرَعْ إِلَى النَّاسِ ... وَاقْنَعْ بِعِزٍّ فَإِنَّ الْعِزَّ فِي الْيَاسِ
وَاسْتَغْنِ عَنْ كُلّ ذِي قُرْبَى وَذِي رَحِمٍ ... إِنَّ الْغَنِيَّ مَنِ اسْتَغْنَى عَنْ النَّاسِ
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحُذَّاقِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ كَلْبٌ وَلَهُ صَدِيقٌ قَصَّابٌ يّأْخُذُ مِنْهُ لِكَلْبِهِ بَعْضَ السَّوَاقِطِ، فَرَأَى عَلَى الْقَصَّابِ مُنْكَرًا يَتَعَاطَاهُ، وَقَالَ: لا بُدَّ أَنْ أُبْرِيَ ذِمْتَي وَأَنْصَحَهُ، وَلَكِنْ أَبَدَأُ أَوْلاً بِقَطْعِ الطَّمَعِ فَدَخَلَ الْبُسْتَانَ وَأَخْرَجَ الْكَلْبَ وَطَرَدَهُ ثُمَّ جَاءَ وَاحْتَسَبَ عَلَى الْقَصَّابِ وَنَصَحَهُ وَأَغْلَظَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَصَّابُ: سَوْفَ لا أُعْطِيكَ لِكَلْبِكَ شَيْئًا أَبَدًا. فَقَالَ: أَنَا حَاسِبٌ لِهَذَا الْكَلامِ مَا أَتَيْتُكَ إِلا بَعْدَ أَنْ طَرَدْتُ الْكَلْبَ عَنْ بُسْتَانِي.
فَمَنْ لَمْ يَقْطَعِ الطَّمَعَ، وَيَسُدُّ بَابَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحِسْبَةِ. قُلْتُ: وَمِثْلَهُ