كُلَّ مَالِهِ في سبيلِ اللهِ، وَأَنْ يَحْظَى بالشهادةِ في سبيلِ اللهِ، فإذا رَجَعَ سَالِمًا إلى أَهْلِهِ، رَجَعَ حَزِينًا على ما فَاتَهُ مِن مَقامِ الشَّهَادَةِ التِي كَانَ يَحْرصُ عليها كُلَّ الْحِرْصِ، وَلَقَدْ كانَ الْمُسْلِمُونَ في أَوَّلِ هَذِهِ الأمَّةِ أَقَلِّيَّةً بَيْنَ الأُمَمِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ فُقَراءَ مِنَ الْمَالِ، ولكنْ كانُوا أَغْنِيَاءَ، بِمَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ البُطُولَةِ، غِنَىً لَمْ يَرْوِ لَنَا التَّارِيخُ نَظِيرَهُ بَيْنَ ذَوِي البُطُولاتِ، يَعْتَمِدُونَ في تِلْكَ البُطولَةِ على مَعونةِ مولاهُمْ لَهُم في كُلِّ حالٍ مِنَ الأَحْوَالِ.
وَلَقْدَ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ تُبَيَّضُ الوُجُوهَ وَتَمْلأُ القُلُوبَ سُرُورًا وَفَرَحًا، كَانُوا إِذَا نَازَلُوا الأَعْدَاءَ رَجَعُوا ظَافِرِينَ مُنْتَصِرِينَ، لا يُرَى عَلَيْهِمْ أَثرُ كَآبةٍ، اللَّهُمَّ إلا كَآبةُ الْحُزْنِ، على أنَّ أَحَدَهُم لَمْ يَفُزْ بِمَقامِ الشَّهَادَةِ التِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ مُنْتَهَى الآمالِ، لِذَلِكَ دَوَّخُوا الدُّنْيَا، وَكَانُوا عِنْدَ الكُلِّ سَادَةَ الأَعِزَّاءِ، كَانُوا لا يَطْمَعُ فِيهِمْ طَامِعٌ، مَعَ أَنَّهُمْ أَقَلِيَّةٌ، وَكَانُوا إِذَا نُسِبُوا لِغَيْرِهِمْ فُقَرَاءَ، وَلَكِنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ بالتَّوَكُّل عَلَى مَنْ بِيَدِهِ القُلوبُ، وَبِيَدِهِ كُلْ شيء لا إِلهَ إِلا هو جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّس.
وَلَقَدْ كانَ مَعَهُمْ صَفْوَةُ الْخَلْقِ، وَعَنْ إِرْشَادَاتِهِ يُصْدِرُونَ مَا يَصْدِرُونَ مِنْ أَعْمَالٍِ، وَهُوَ كَانَ لا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ جَلَّ وَعَلا بِذَلِكَ، أَمَّا نَحْنُ فَعُدَّ مِنَّا بِمِئَآتِ الأُلُوفِ وَقُلْ مَا تُرِيدُ في غِنَانَا فَالْوَاحِدُ مِنَّا يَمْلِكُ الْمَلايينَ، وَمِنْ العَقَارَاتِ الشَّيْءَ الكَثِيرَ، وَلَكِنَّنَا مَعَ ذَلِكَ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، نُحِبُّ هَذِهِ الْحَيَاةَ، حُبًّا مَلَكَ مَشَاعِرَنَا كُلَّهَا اللَّحْمُ وَالعَظْمَ وَالعُروقَ وَكُلَّ شَيْءٍ وَنَكْرَهُ الْمَوْتَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَالسَّبَبْ في ذلك - واللهُ أعلمُ -