وما قرره جمال الدين السرمري من الإيمان بالميزان هو مذهب أهل السنة والجماعة -كما تقدم-، وقد خالف في هذا الأصل الجهمية وجمهور المعتزلة، بل إن بعض العلماء ذهب إلى أن جميع المعتزلة تنكره، فنفوا أن يكون الميزان حقيقي، إذ زعموا أن الأعمال أعراض، والأعراض لا توزن، وإن أمكن إعادتها فلا يمكن وزنها إذ لا توصف بالخفة والثقل، وقالوا أيضاً: الوزن للعلم بمقدارها، وهي معلومة لله تعالى، فلا فائدة فيه، فيكون قبيحاً تنزه عنه الرب تعالى، وتأولوا النصوص الواردة في الميزان بأنه العدل (?)،
وقد رد عليهم العلماء وأوضحوا خطأهم في هذا التأويل الباطل، حتى إن أحد كبار أئمتهم -وهو القاضي عبدالجبار- رد على من يؤول ذلك التأويل.
يقول القاضي عبدالجبار: "أما وضع الموازين فقد صرح الله تعالى في محكم كتابه، قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: من الآية 47] وقوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ ... } الآية ... [الأعراف: 8] إلى غير ذلك من
الآيات التي تتضمن هذا المعنى، ولم يرد الله تعالى بالميزان إلا المعقول منه المتعارف فيما بيننا دون العدل وغيره على ما يقوله بعض الناس، لأن الميزان وإن ورد بمعنى العدل في قوله: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: من الآية 25] فذلك على طريق التوسع والمجاز، وكلام الله تعالى مهما أمكن حمله على الحقيقة لا يجوز أن يعدل به عنه إلى المجاز؛ يبين ذلك ويوضحه، أنه لو كان الميزان إنما هو العدل، لكان لا يثبت للثقل والخفة فيه معنى، فدل على أن المراد به الميزان المعروف الذي يشتمل على ما تشمل عليه الموازين فيما بيننا ... " (?).