ولما عاد إلى منصبه؛ عفا وصفح عن كل من أساء إليه؛ فلم يعاقب أحداً بجريرة، ولم يراجع أيّاً منهم في شيء ذكره في حقه إبّان محنته، يقول ابن كثير في ذلك: ((جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله. . . وأبان في أيام محنته عن شجاعة، وقوّة على المناظرة، حتى أفحم خصومه مع كثرتهم ثم لما عاد عفا وصفح عمّن قام عليه)) (?)، ويقول ابن حجر: ((حصل له بسبب القضاء محنة شديدة مرة بعد مرة، وهو مع ذلك في غاية الثبات، ولما عاد إلى منصبه صفح عن كل من أساء إليه)) (?).
المبحث التاسع
وفاته
لم يُعمّر شيخنا تاج الدين السبكي طويلاً، فقد وافاه القدر مبكراً، ولم يُمهله كثيراً، إذ توفي رحمه الله تعالى شهيداً بالطاعون عن ثلاثة وأربعين سنة في سابع ذي الحجة من عام 771هـ (?).
فقد خطب يوم الجمعة ثالث ذي الحجة، ثم طعن يوم السبت واستمر يعاني المرض حتى مساء يوم الثلاثاء السابع من ذي الحجة حيث اختاره الله تعالى إلى جواره شهيداً.
وقد كانت جنازته جنازة حافلة حيث صُلّي عليه أكثر من مرة، وحضر نائب السلطنة، وحمل نعشه الأمراء الكبار، وقد شيعه خلائق كثر، ودفن رحمه الله تعالى بمقبرة السبكيين بسفح قاسيون، وقد تأسف الناس لموته كثيراً.
وهكذا رحل تاج الدين السبكي، بعد حياة حافلة بالعطاء والصبر والجهاد، وبعد أن خلّف وراءه تراثاً ضخماً كان كفيلاً بأن يُبقي ذِكْره واسمه حياً في نفوس العلماء وطلاب العلم وأهله، فرحم الله التاج السبكي وجزاه الله عن هذه الأمّة خير الجزاء، وجمعنا الله وإياه في دار المقامة مع السعداء، آمين.
ويعجبني أن أختم هذا الترجمة ببعض أبيات كان قد راسله بها صديقه الصفدي والتي يقول فيها:-
لَكِنْ جَعَلْتَ الشَّامَ بَعْـ ... ـــدَكَ كَالجَحيمِ وَكَانَ جَنَّه
ودِمَشْقُ بَعْدَكَ قَدْ تَرَدَّ ... تْ ثَوبَ حُزْنٍ فِيهِ دُكْنَه
لَم يُسْقَ مَن يَرِدُ البَريـ ... ـصَ (?) وَلو أَتى أَولادَ جَفْنَه (?)
وكَذاكَ ثَورا (?) بَعْدَ بُعْـ ... ــدِكَ ما تَسَنّى بَل تَسَنَّه (?)
والجَامِعُ المَعْمورُ كَا ... دَ تُزَعْزِعُ الأَشْواقُ رُكْنَه
والقُبَّةُ الشَّمَّاءُ لَيـ ... ــسَ بِجَوِّها لِلنَّسْرِ قُنَّه
كانَتْ بِهِ الأَعْطافُ وهِـ ... ــــــيَ مَوائِدٌ يَمْلأْنَ صَحْنَه
والآنَ أَقْفَرَ وَحْشَةً ... وأَسالَ مِنْهُ السَّقْفُ دُهْنَه
ودُموعُهُ فَوّارَةٌ ... قَدْ قَرَّحَتْ بِالفَيضِ جَفْنَه