الثالثة: وهي الأخيرة وأشدها على التاج السبكي، فقد كانت سنة 769 هـ، حيث عزل التاج عن القضاء وعن التدريس وأمر بالقبض عليه، ومصادرة أمواله والختم على بيوته، وقد عقدت له عدّة مجالس بدار النائب في دمشق للكشف عليه بحجة ما رمي به من تهم باطلة، وقد دافع التاج عن نفسه، فأفحم خصومه، وظهر قوله عليهم (?)، غير أنّ الحساد الذين تولوا هذه التهم، وعلى رأسهم ابن الرُّهاوي (?) ما فتأ يُلحّ في ملاحقة التاج والتنقير عنه، حتى أمر القاضي ابن قاضي الجبل (?) بحبسه مدة سنة، وبالفعل سجن التاج في قلعة دمشق، واستمر فيها مدة ثمانين يوماً، ثم طُلِبَ إلى القاهرة وهناك عقد له مجلس حضره كبار العلماء، وبيّنوا أنّ ما اتهم به التاج لا يقتضي عزله ولا الحكم بسجنه، وبالفعل أبطل حكم ابن الجبل وأعيد التاج إلى وظائفه مكرماً مبجلاً معظماً وكان ذلك سنة 770هـ (?).
هذا ولم يَذْكُر لنا التاج السبكي تفاصيل محنته هذه (?)، ولكني وجدت له إشارات تدلّ على ذلك فمنها: ما أشار إليه في مقدمة كتابه ((الترشيح))، من أنّه قد نظم أرجوزة في اختيارات والده وهو في السجن حيث قال: ((إنّي كنت قد نظمت وأنا في السجن أرجوزة، ثم قال: ولما كانت تلك الأرجوزة حيث أنا مسجون مهموم، قليل الكتب أو عديمها إنّما تُملى على حافظتي)) (?).
وقد ذكر ابن طولون بعض أبيات هذه الأرجوزة فمنها:
الحَمْدُ لله وقَدْ تَنَجَّزا ... نَظْمي هَذا واضِحاً مُرَجَّزا
في السِّجْنِ والتَّضْييقِ والتَّرْسيمِ ... أَتْمَمْتُ ما حَرَّرْتُ مِن مَنْظومي
ورُبْما أَهْمَلتُ أو غَفِلْتُ ... فالحَبْسُ قد يُنْسي الّذي عَلِمْتُه
وليَس عِنْدي كُتُبُ أُطالِعُ ... والحِفْظُ يَألَمُ جُهْدَ ما يُراجِعُ
أَسْأَلُ رَبَّ العالمَينَ فَرَجا ... مُعَجَّلاً فَهُو الكَريمُ المُرْتَجى
ولَم أَزَل في حَبْسِ قَبْرٍ عُذْرا ... خَمْسينَ يَوماً لا عُدِمْتُ أَجْرا
ثم قال:
حَتّى نُقِلْتُ بَعْدَهُ لِلْقَلْعَه ... وحَبْسُها مُرُّ ولكن ذُو سَعَه