ثم أسهب في بيان قَدْر الشافعي في شتى العلوم فأخذ ببيانها علماً علما فقال: ((فأما الكتاب فهو عربيٌّ مبين، والشافعي إذا أنصف الناظر عَرَفَ أنه المميَّزُ عن غيره فيما يحاوله منه، لأنه القرشي البليغ ذو اللغة التي يَحتجُّ بها الواصل إلى الذروة في معرفة الناسخ والمنسوخ ومعرفة الروايات.))
ثم تكلَّم عن الحديث فقال: ((وأما الحديث فلا ينكرُ منصفٌ مقامَه في الأخبار، وإلقاءَه الأحاديث من حفظه ... حتى قال أبو زُرعة: ما عند الشافعي حديثٌ غَلط فيه، وقال أبو داود: ما أعلمُ للشافعي حديثاً خطأ، وهو في معرفة الرجال وغير ذلك من فنون الحديث الواصل الليل بالنهار يُنزِّلُ الأحاديثَ منازلها ويَقْبلُ كلَّ ما صح منها ويجعله مذهبه لا يفرِّقُ بين كوفيٍّ ومدني، [ثم قال] وأما فِقْهُ الحديث فهو سيِّدُ الناس في ذلك.))
هذا ويرى التاج السبكي أنّ الشافعيَّ أعلمُ بالحديث من الإمام أحمد ويقول في تأويل عبارة الشافعي لأحمد أنتم أعلم منا بالحديث فقل لي كوفية وبصرية: ((يعني أنكم أهل العراق أعلم منا معشر الحجازيين بأحاديث الكوفة والبصرة ... ولم يُرِد الشافعي أنّ ابن حنبلٍ أعلم منه بالحديث كما ظن بعض الأغبياء حاش الله، وإنما أراد ما ذكرناه ... ولو أرادَ الشافعي ما زَعمه بعض الأغبياء جَبْراً لأحمد وتأدُّباً معه وتعظيما لجانب تلميذه لجاز ذلك، ولا لَومَ عليه.))
ومن ثَمَّ بيَّن التاج السبكي أرجحية نظر الشافعي في الفقه وكيفية ترتيبه لأدلة الفقه ورده للأدلة المختلف فيها كالاستحسان وغيره ثم قال: ((وآخر ما نذكره دليلا لم يُرَ من سبقنا باستنباطه يدلُّ على ما نحاوله، وهو حديث {يبعث الله على رأس كل مئة من يجدد لها أمر دينها} واتفق الناس على أنّ المبعوث على رأس الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى الثانية الشافعي، ويأبى الله أن يبعثَ مخطئاً في اجتهاده أو يختصَّ ناقصَ المرتبة بهذه المزية، بل هذا صريح في أنّ ما يأتي به المبعوث فهو دين الله الذي شرعه لعباده، ومن الغرائب الواقعة في هذا الأمر المؤيدة لما ذكرناه وما حاولناه تأييدا يَنْثلجُ به الصدر أن الله تعالى خصَّ أصحابَ الشافعي بهذه الفضيلة فكان على رأس الثلاثمئة ابن سريج، وهو من أكبر أصحابه، وعلى رأس الأربعمئة الشيخ أبو حامد إمام العراقيين من أصحابه، وعلى رأس الخمسمئة الغزالي القائمُ بالذبِّ عن مذهبه، والداعي إليه بكل طريق، وعلى السادسة الإمام فخر الدين الرازي أحد المقلدين له والمنتحلين مذهبه والذابين عنه، وعلى السابعة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد الذي رجعَ إلى مذهبه وانتحله وتولىَّ القضاء وحكمَ به بعد أن كان في أول نشأته مالكيا.)) (?) انتهى.
وقد أردت ذكر هذه النصوص وذلك لأنَّ فيها بياناً لمدى حُبِّ التاج للشافعي وكيف يرى وجوبَ تقديمه على غيره وبالتالي وجوبَ تقليده، واعلم أنّ أكثر هذه الاستدلالات التي أوردها التاج السبكي مأخوذةٌ من قُدوته في ذلك وسلفه العظيم الإمام الجويني، حيث ذكر هذه الاستدلالات في أواخر كتابه ((البرهان)) (?) فانظرها هناك إن شئت.