قلتُ: هذا الحديث مداره على الزُّهْرِيِّ، واختلف عنه على وجهين:
1. رواه مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ جَابِرٍ مسنداً.
2. ورواه الزُّبَيْدِيُّ، فَقَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِالرَّحْمَنِ مُرْسَلاً.
تُمَّ رجح أبو حاتم الوجه الثاني؛ لأنَّ الزُّبَيْدِيُّ أوثق من مَعْمَرٍ في الزُّهْرِيِّ، فصار
الحديث معلولاً بالإرسال بعد هذا الترجيح، وبهذا ظهر لك أنَّ الدارقطني والنقاد المتقدمين كانوا يستعملون هذه القرينة في الترجيح بين المرويَّات، ومنهجهم فيها.
إنَّ معرفة السير والتواريخ وزمن الغزوات من أهم أنواع القرائن التي اعتمد عليها النُّقاد في ترجيح الصحيح من الباطل، ولقد سَطَّرَ لنا التاريخ لهم أروع المثل في دقة التحقيق، وثقابة الفهم، مما لا يدع شكاً أنَّ الله قد قيد لهذه الأمة أولئك النفر من جهابذة النُّقاد ليرسموا لنا الطريق الصحيح، والمنهج القويم في معرفة الصحيح من السقيم، ولا أدل على ذلك من أنهم كانوا يكتشفون بتحديد التاريخ زيف الأخبار، وتمييز ما هو خطأ ووهم محض، أو كذب وافتراء، ولهم في كل حكم على الحديث قرينة يستندون إليها تثبت صحة قولهم، ودقة منهجهم.
وما أروع ما حكاه الحسينِ المروزيُّ فقال: " سمعتُ عبدالرحمن بن مهديّ يقولُ: كنتُ عند أبي عَوانةَ فَحدَّثَ بحديثِ الأعمش، فقلتُ: ليس هذا من حديثك، فقال: لا تفعل يا أبا سعيد، هو عندي مكتوب، قلت: فهاته، قال: يا سلامة هاتِ الدَّرْج (?) فأخرجه فنظر فيه، فإذا ليس الحديث فيه، فقال: صدقتَ يا أبا سعيد، صدقتَ يا أبا سعيد، ومَنْ أينَ أُتيتُ بهِ؟ قلتُ: ذُوكِّرتَ بهِ وأنت شابٌ فعَلَقَ بِقَلبك فظننتَ أنَّك سمعتَهُ " (?).