كَانَ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ. وَإِنَّمَا يَغْلَطُ مَنْ يَغْلَطُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى السَّوَادِ الْقَلِيلِ فِي الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى الثَّوْبِ الْأَسْوَدِ الَّذِي فِيهِ بَيَاضٌ. وَهَذَا مِنَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، بَلْ يُوزَنُ هَؤُلَاءِ بِنُظَرَائِهِمْ، فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ وَالرُّجْحَانُ.
وَأَمَّا مَا يَقْتَرِحُهُ (?) كُلُّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَمْ يُخْلَقْ، فَهَذَا لَا اعْتِبَارَ بِهِ. فَهَذَا يَقْتَرِحُ مَعْصُومًا فِي الْأَئِمَّةِ، وَهَذَا يَقْتَرِحُ مَا هُوَ كَالْمَعْصُومِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ مَعْصُومًا، فَيَقْتَرِحُ فِي الْعَالِمِ وَالشَّيْخِ وَالْأَمِيرِ وَالْمَلِكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَعَ كَثْرَةِ عِلْمِهِ وَدِينِهِ وَمَحَاسِنِهِ، وَكَثْرَةِ مَا فَعَلَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، يَقْتَرِحُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يُخْطِئُ فِي مَسْأَلَةٍ (?) ، وَأَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْبَشَرِيَّةِ فَلَا يَغْضَبُ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يُقْتَرَحُ فِيهِمْ (?) مَا لَا يُقْتَرَحُ فِي الْأَنْبِيَاءِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا وَمُحَمَّدًا أَنْ يَقُولَا: {لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [سُورَةُ هُودٍ: 31] فَيُرِيدُ الْجُهَّالُ مِنَ الْمَتْبُوعِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكُلِّ مَا يُسْئَلُ عَنْهُ، قَادِرًا عَلَى كُلِّ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ، غَنِيًّا عَنِ الْحَاجَاتِ الْبَشَرِيَّةِ كَالْمَلَائِكَةِ.
وَهَذَا الِاقْتِرَاحُ مِنْ وُلَاةِ الْأَمْرِ كَاقْتِرَاحِ الْخَوَارِجِ فِي عُمُومِ الْأُمَّةِ، أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ ذَنْبٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ كَانَ عِنْدَهُمْ كَافِرًا مُخَلَّدًا فِي النَّارِ.