1- إضاءة: فأما معتمد التقابل الذي صدور أبياته مبنية على القوافي فإنه يتأتى له حسن النظم لكون الملاءمة بين أوائل البيوت وما تقدمها - التي هي واجبة في النظم - متأتية له في أكثر الأمر، إذ لكل معنى معان تناظره وتنتسب إليه على جهات من المماثلة والمناسبة والمخالفة والمضادة والمشابهة والمقاسمة. فإذا وضع المعنى في القافية أو ما يلي القافية وحاول أن يقابله ويجعل بإزائه في الصدر معنى على واحد من هذه الأنحاء لم يبعد عليه أن يجد في المعاني ما يكون له علقة بمعنى القافية وانتساب إليه من بعض هذه الجهات، وعلقة بما تقدم من معنى البيت الذي قبله، أو بأن يقدم على المعنى المقابل لمعنى القافية ما يكون له علقة بما تقدم، يبني نظمه متلائما بهذا.
2- تنوير: وأما معتمد التقابل الذي قوافيه مبنية على الصدور فإنه يضع المعنى في أول البيت ثم ينظر فيما يمكن أن يكون بنفسه قافية أو ما يمكن أن توصل به قافية مما يكون له بزيادة إفادة في المعنى، فيقابل به المعنى الأول. لكن صاحب هذا المذهب وإن وسع على نفسه أولا، في كونه يختار ما يضعه في صدر بيته ويبني عليه كلامه مما له علقة بما تقدم، فقد ضيق على نفسه بكونه لا يمكن أن يقابل المعنى المتقدم من المعاني المتناظرات إلا بما مقطع عبارته وصيغتها موافق للروي أو بما يمكن أن يوصل بما يصلح للوري بالصيغة والمقطع. والأول معوز جدا، والثاني قريب منه في العوز. فكثيرا ما يتكلف هذا ويسامح نفسه في أخذ المنافر على أنه مخالف أو مناسب، ونحو من هذا قول المتنبي: (الخفيف -ق- المترادف)
كاثرت نائل الأمير من الما ... ل بما نولت من الإيراق
3- إضاءة: وقليلا ما يذهب هذا المذهب من تنبه لحسن تقابل المعاني وتفطن إلى طريق الوضع فيه واعتمده، أعني أن يبني أعجاز البيوت على صدورها لأنه أصعب شيء بالنسبة إلى وضع التقابل، كما أن الأمر في بناء صدور البيوت على أعجازها بالنسبة إلى وضع التقابل أسهل شيء لأن وجود مناظر أو صلة لمناظر ملتزم أن يكون مقطعه حرفا معينا في صيغة معينة أعز من وجود مناظر أو صلة له غير ملتزم أن يكون مقطعها حرفا معينا بل لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في اليسر والعوز والكثرة والقلة.
4- تنوير: وإنما يتفق هذا أعني بناء العجز على الصدر لمعتمدي التقابل في الشعر المروى إذا كملت لهم فصول القصائد وحاولوا أن يصلوا بعض الفصول التي لم يتفق أن توصل بدءا ببعض، فعند ذلك تتقارب هذه الأحوال في الصعوبة لأن القوافي قد انحصرت له وضاقت عليه. فإذا بنى على القافية ووضع فيها معنى قد اضطره إليه كون عبارته موافقة للقافية، وكونها لم تتقدم في قوافي القصيد، فقد يكون ذلك المعنى بعيدا من جملة نهايات فصول القصيدة فضلا عن الموضع الذي اضطر فيه إليه. فلا يجد له مناظرا ولا صلة يكون له أول لها علقة بما تقدم إلا على سبيل التكلف. فربما خالف في هذا الموضع عادته في البناء، فبنى آخر الكلام على أوله، فوضع المعنى المقابل للمعنى المتقدم قريبا من القافية، ثم تطلب ما يصله به مما يصلح أن يكون قافية، ويكون مع ذلك لمعنى البيت الذي يلي تلك القافية ويأتي إثرها علقة بها أو بمقابلها أو بما وقع حشوا بينهما أو بمجموع ذلك، فيبني البيت حينئذ على غير ما عادته أن يبنيه عليه. وربما ترك ملاحظة التقابل في هذا الموضع بالجملة ونظر طريقا آخر يؤديه إلى القافية غير هذا الطريق.
5- إضاءة: فأما من لا يقابل بين الكلام ومن شانه أن يبني صدور البيوت على أعجازها فإنه يتطلب للكلمة التي يريد وضعها قافية معنى يمكن أن يكون للكلام به علقة بما تقدم، ثم يحتال في زنة العبارة ووضع أولها وضعا يليق بما تقدمه ويناسبه.
6- تنوير: ومن كان من شانه أن يبني أواخر الأبيات على أوائلها فإنه يتطلب معنى يناسب ما تقدم ويمكن في عبارته مع ذلك أن يتأتى في ما يلائم تلك القافية منها أن تؤخر فتكون القافية. وكثيرا ما تتبع معاني من شأنه هذا ألفاظه في القوافي، وذلك عيب.