والأقاويل الشعرية أيضاً تختلف مذاهبها وأنحاء الاعتماد فيها بحسب الجهة أو الجهات التي يعتني الشاعر بها بإيقاع الحيل التي هي عمدة في إنهاض النفوس لفعل شيء أو تركه أو التي هي أعوان للعمدة. وتلك الجهات هي ما يرجع إلى القول نفسه، أو ما يرجع إلى القائل، أو ما يرجع إلى المقول فيه، أو ما يرجع إلى المقول له. والحيلة فيما يرجع إلى القول وإلى المقول فيه وهي محاكاته وتخييله بما يرجع إليه أو بما هو مثال لما يرجع إليه هما عمودا هذه الصناعة، ومما يرجع إلى القائل والمقول له كالأعوان والدعامات لها.

1- إضاءة: وتفصيل هذه الجملة أن القول في شيء يصير مقبولا عند السامع في الإبداع في محاكاته وتخييله على حالة توجب ميلا إليه أو نفورا عنه بإبداع الصنعة في اللفظ وإجادة هيأته ومناسبته لما وضع بإزائه وبإظهار القائل من المبالغة في تشكيه أو تظلمه أو غير ذلك وإشراب الكآبة والروعة وغير ذلك كلامه ما يوهم أنه صادق. فيكون ذلك بمنزلة الحال فيمن ادعى أن عدوا وراءه وهو مع ذلك سليب ممتقع اللون، فإن النفوس تميل إلى تصديقه وتقنعها دعواه، أو بان يحتال في انفعال السامع لمقتضى القول باستلطافه وتفريطه بالصفة التي من شأنها أن يكون عنها الانفعال لذلك الشيء المقصود بالكلام ومدحه إياه بان تلك عادته وأنها من أفضل العادات.

2- تنوير: وقد تعضد هذه الأشياء باستلالات خطبية محضة أو موجود فيها شروط الشعر والخطابة معا يكون المحاكاة توجد فيها مع الإقناع؛ وما كن بهذه الصفة فهو أفضل موقعا في الشعر، والصنف الآخر أيضاً قد يقع في الشعر ولا يقدح ذلك فيه لأن صناعة الشعر لها أن تستعمل شيئا من الإقناع كما أن صناعة الخطابة لها أن تستعمل شيئا يسيرا من المتخيلات.

3- إضاءة: وإذ قد تبين أن الكلام يهيأ للقبول من جهة ما يرجع إليه وما يرجع إلى القائل وما يرجع إلى المقول فيه والمقول له فواجب أن يعلم أن للكلام في كل مأخذ من تلك المآخذ التي بها تعتر النفوس لقبوله هيآت من جهة ما يلحقه من العبارات وما يتكرر فيه من المسموعات الدالة على مأخذ مأخذ من ذلك. فربما أدى الاطراد على نحو من ذلك إلى تكرار يستثقل ويزول به طيب الكلام. وأنا أنبه على ما يكثر في مأخذ مأخذ من ذلك.

4- تنوير: فأما المأخذ الذي من جهة الحيلة الراجعة إلى القائل فمن شانه أن تقع معه الكلم المستندة إلى ضميري المتكلم كثيرا. فأما ما يرجع إلى السامع من ذلك فكثيرا ما تقع فيها الصيغ الأمرية وما بإزائها. وبالجملة تكثر فيها المسموعات التي هي أعلام على المخاطبة. فأما ما يرجع إلى المقول به فكثيرا ما تقع فيه الأوصاف والتشبيهات، وأكثر ما يستعمل ذلك مع ضمائر الغيبة. وهم يسأمون الاستمرار على ضمير متكلم أو ضمير مخاطب فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة، وكذلك أيضاً يتلاعب المتكلم بضميره فتارة يجعله ياء على جهة الإخبار عن نفسه وتارة يجعله كافا أو تاء فيجعل نفسه مخاطبا وتارة يجعله هاء فيقيم نفسه مقام الغائب، فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضمير متكلم أو مخاطب لا يستطاب وغنما يحسن الانتقال من بعضها إلى بعض.

5- إضاءة: وكذلك لا ينبغي أن يستمر في كلام طويل على وصف حالة ساذجة، بل التركيب في لأحوال واقتران بعضها ببعض مما يجب أن يعتمد، مثل اقتران وصف حالة المحب بوصف حالة المحبوب؛ فإن الترامي بالكلام إلى أنحاء شتى في جهة جهة وتركيب تركيب وصيغة صيغة وضرب بعضه ببعض على الهيآت الملائمة في كل مذهب يذهب فيه ونحو ينحى به ألذ وأطيب من الجمود به على حالة واحدة في كل نحو من أنحاء الكلام.

6- تنوير: وبحسب الميل به إلى نحو نحو من جميع ما ذكرناه من أنحاء الأقاويل الشعرية وما توجه إليه وتجري عليه من الجهات والمجاري التي أشرت إليها اختلفت طرق الناس في الشعر، ووجد لكل شعر ذوق يخصه وسمة يمتاز بها من غيره. فتباينت طرق الناس وأساليبهم ومنازعهم ومآخذهم في جميع ذلك، لأن طرق التركيب في جميع ذلك لا تنحصر، فلذلك ينبغي أن يقتصر من قسمة الشعر إلى أربعة الأقسام التي ذكرنا. وأما من قسمه إلى مديح ونسيب وهجاء ورثاء فإنما قسمه بحسب الأهم فالأهم والأوقع فالأوقع من الأغراض التي هي أصول بأنفسها أو فروع عن غيرها، لأن وقوع الأقاويل الشعرية في هذه الأغراض أكثر من وقوعها في غيرها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015