2- تنوير: ولما كانت المنافع كأنها تنقسم إلى ما يكون بالنسبة والملاءمة مثل ما يوجد من مناسبة بعض الصور لبعض النفوس فيحصل لها بمشاهدة تلك الصورة المناسبة لها نعيم وابتهاج - وذلك الابتهاج نوع من المنافع لتلك النفس- وإلى ما يكون بالفعل والاعتماد مثل ما يعتمده الإنسان من إسعاف آخر بطلبته فيكون في إسعافه بها منفعة له، وإلى ما يكون منفعة بالقوة والمال أو بتشفي النفس فقط مثل ما تحل مضرة بعدو إنسان فتنفع ذلك الإنسان بان تضعه له وتقويته على مقاومته والانتصاف منه، وربما لم ينتفع من ذلك إلا بسرور التشفي فقط، وكانت المضار أيضاً تنقسم إلى أضداد ما ذكرته اقتضى ذلك انقسام الذكر الجميل إلى ما يتعلق بالأشياء المناسبة لهوى النفس وسمي ذلك نسيبا، وإلى ما يتعلق بالأشياء المستدعية رضى النفس وسمي ذلك كما تقدم مديحا، وكان ما يتعلق من الذكر القبيح بالأشياء المنافرة لهوى النفس والأشياء المباعدة عن رضاها كلاهما داخل تحت قسمة واحدة وهي الهجاء.
3- إضاءة: فالطرق قد تختلف بحسب اختلاف المنافع وكذلك بحسب اقتران الأحوال التي للقائلين والمقول فيهم، مثل أن يقترن في القول وصف حال مرتاح بحال مرتاح له أو حال مكترث بحال مكترث له، فتختلف الطرق أيضاً بحسب اختلاف ذلك. ألا ترى أن الميزة بين المديح والنسيب إذا لم يتعرض المشبب لوصف حاله غنما هو بأن النسيب يكون بأوصاف مناسبة لهوى النفس ويكون مع ذلك مقترنا به وصف حال توجع المشبب في كثير من الأمر، والمديح يكون بأفعال شريفة دالة على كمال الإنسان مستدعية لرضى النفوس من غير أن يقرن بذلك من صفة حال القائل ما اقترن بالتشبيب. والفرق بين النسيب المقترن به وصف حال توجع ورثاء النساء المقترن به حال توجعه أيضاً أن النسيب بموجود والرثاء لمفقود. فهذه أيضاً من الجهات التي تختلف الطرق بها.
4- تنوير: ولما كان ما يهرب منه قد يقع ممن يحتمل منه ذلك ولو أدنى احتمال - فلا يؤاخذ به جملة أو لا يؤاخذ به كبير مؤاخذة، ومنهم من يؤاخذ به أشد المؤاخذة - سمي ما يتعلق من القول بذلك بحسب طبقات من يقع ذلك منهم ونسبتهم إلى القائل معاتبة وتعديدا وتوبيخا وتقريعا. فإن صدر ما يكون منه الهرب من القائل إلى المخاطب ثم أعفاه منه وتعلق القول بذلك سمي إعتابا. فإذن تنقسم الأقوال فيما حصل مما شأنه أن يطلب أو يهرب عنه إلى تهان وما معها، وتعاز وما معها، ومدائح وما معها، وأهاج وما معها.
5- إضاءة: ولا يخلو الشيء الحاصل مما شأنه أن يطلب أو يهرب عنه من أن يكون ذو العناية به أحدا - كان القائل أو غيره - ويكون هو حاكيا ذلك عنه، أو يكون قد عني به متنازعان في استجلابه أو مدافعته - كان القائل أحد المتنازعين أو لم يكن - غير أنه يحكي حالهما أو يكون حاكما بينهما، فيكون الكلام على هذا إما اقتصاصا وإما مشاجرة وإما فصلا في مشاجرة؛ وقد تكون المشاجرة والفصل فيها متعلقين بما يستقبل.
6- تنوير: فأما الأمور التي لم تحصل مما شأنه أن يطلب أو يهرب عنه فلا يخلو من أن يكون المتكلم هو الطالب لها أو الهارب منها من تلقاء السامع، أو يكون السامع هو الطالب لها أو الهارب عنها من تلقاء المتكلم. فما كان من المتكلم إلى السامع مما شأنه أن يطلب يسمى إذا لم يعلم رأيه فيه غرضا، وما كان من تلقاء السامع إلى المتكلم وكان طلبا جزما سمي اقتضاء، فإن كان بتلطف سمي استعطافا، وإن كان يرى أنه قد جاوز الوقت الذي كان يجب فيه سمي استبطاء، فإن كان مما شأنه أن يهرب منه وأنذر به المتكلم من تلقاء نفسه أو من غيره سمي ذلك إبعادا وتهديدا وإنذارا وتخويفا ونحو ذلك. فإن خافه من تلقاء السامع واستدفعه إياه سمي ذلك استعفاء أو استقالة أو ترضيا أو نحو ذلك.
فقد حصل بهذا الاعتبار إذن أقاويل عرضيات وترهيبات وتخويفات واستدفاعيات ومنها الإطماعيات أيضاً ومقابلتها وهو ما أطمع القائل فيه أو أيأس منه.