كيف ترثي التي رأت كل جفن ... راءها غير جفنها غير راق

وتحسين البيت التالي لبيت التخلص إلى المدح يجري من بيت التخلص مجرى تحسين البيت الثاني من البيت الأول في أن إتباع تحسين أحدهما بتحسين الآخر أكيد.

فأما ما تتأكد به العناية عند قوم ولا تتأكد عند آخرين فمقاطع القصائد وأبياتها الأواخر. وذلك من جهة ما يرجع إلى هيئات الوضع والتأليف والاطراد في الألفاظ والمعاني والنظام والأسلوب. فأما من جهة وقوع لفظ مكروه أو معنى مشنوء في منقطع الكلام فالرأي فيه واحد في أن التحفظ منه واجب على كل ناظم أو ناثر.

فهذه مذاهب الحذاق المطبوعين: تحسين هيئات القصائد وتحصين مبانيها قد أبنتها، فمن سلك ذلك السبيل وذهب ذلك المذهب فقد سرى على سواء المنهج من هذه الصناعة، إن شاء الله.

ب- مأم من مذاهب البلاغة المستشرفة بهذا المعلم وهو مذهب الإبداع في الاستهلال.

وتحسين الاستهلالات والمطالع من أحسن شيء في هذه الصناعة، إذ هي الطليعة الدالة على ما بعدها المتنزلة من القصيدة منزلة الوجه والغرة، تزيد النفس بحسنها ابتهاجا ونشاطا لتلقي ما بعدها إن كان بنسبة من ذلك. وربما غطت بحسنها على كثير من التخون الواقع بعدها إذا لم يتناصر الحسن فيما وليها.

1- إضاءة: ولا يخلو الإبداع في المبادي من أن يكون راجعا إلى ما يقع في الألفاظ من حسن مادة واستواء نسج ولطف انتقال وتشاكل اقتران وإيجاز عبارة وما جرى مجرى ذلك مما يستحسن في الألفاظ، أو إلى ما يرجع إلى المعاني من حسن محاكاة ونفاسة مفهوم وتطبيق مفصل بالنسبة إلى الغرض وما جرى مجرى ذلك مما يستحسن في المعاني، أو إلى ما يرجع إلى النظم من إحكام بنية وإبداع صيغة ووضع وما ناسب ذلك مما يحسن في النظم، أو إلى ما يرجع إلى الأسلوب من حسن منزع ولطيف منحى ومذهب وما جرى مجرى ذلك مما يستحسن في الأساليب.

2- تنوير: وملاك المر في جميع ذلك أن يكون المفتتح مناسبا لمقصد المتكلم في جميع جهاته. فإذا كان مقصده الفخر كان الوجه أن يعتمد من الألفاظ والنظم والمعاني والأسلوب ما يكون فيه بهاء وتفخيم، وإذا كان المقصد النسيب كان الوجه أن يعتمد منها ما يكون فيه رقة وعذوبة من جميع ذلك، وكذلك سائر المقاصد. فإن طريقة البلاغة فيها أن تفتتح بما يناسبها ويشبهها من القول من حيث ذكر.

3- إضاءة: ومما تحسن به المبادئ أن يصدر الكلام بما يكون فيه تنبيه وإيقاظ لنفس السامع أو أن يشرب ما يؤثر فيها انفعالا ويثير لها حالا من تعجيب أو تهويل أو تشويق أو غير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه.

4- تنوير: وفي الكلام ما له صورة يصير بها لائقا أن يكون رأس كلام ومفتتح قول، ومنه ما لا يليق بالمبادي ولا يكون له هيأة تصلح لها.

ويجب أن يجتلب القول للمبادئ من المعدن الأول.

5- إضاءة: وأحسن المبادي ما تناصر فيه حسن المصراعين وحسن البيت الثاني على ما تقدم ذكره في العلم قبل هذا.

وأكثر ما وقع الإحسان في المبادئ على هذا النحو للمحدثين. فأما العرب المتقدمون فلم يكن لهم بتشفيع البيت الأول بالثاني كبير عناية. وكثيرا ما كانوا يتسلسلون فيه في ذكر المواضع نحو قول امرئ القيس: (الطويل -ق- المترادف)

فغول، فحليت، فنفي فمنعجٍ ... إلى عاقل، فالجب ذي الأمرات

والرتبة الثانية في حسن المبادي أن يتناصر الحسن في المصراعين دون البيت الثاني، نحو قول أبي الطيب المتنبي: (الخفيف -ق- المترادف)

أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي

والرتبة الثالثة أن يكون المصراع الأول كامل الحسن، ولا يكون المصارع الثاني منافراً له وإن لم يكن مثله في الحسن، ومثل هذا يوجد كثيرا.

6- إضاءة: وقد تكون المبادي، التي حسن فيها المصراع الأول وكان ما وليه نمطا وسطا في الكلام، من الشرف بما وقع فيها بحيث تفوق المبادي التي تناصر الحسن في مصارعيها والبيت الثاني لهما، وذلك نحو قول امرئ القيس: (الطويل -ق- المتدارك)

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015