عشيَّةَ سلَّمنا عليها فسلَّمتْ ... فماذا ترى أن أيَّ شيءٌ تحاذِرُ
فقلتُ لها عنْ غيرِ سخطٍ ولا الرّضا ... أغيريَ أمْ إيَّايَ غيثكِ ماطِرُ
فقالتْ تعلَّمْ أهلنا ليسَ فيهمِ ... بكلِّ الذي تلقى منَ الوجدِ عاذِرُ
فكنْ منهمُ إنْ كنتَ ترجو هوادةً ... على حذرٍ ما دامَ للزَّيتِ عاصِرُ
وكيفَ ولا أنساكَ عنْ طولِ هجرةٍ ... فأسلو إلاَّ ريثَ ما أنا ذاكِرُ
طوالَ اللَّيالي ما تغنَّتْ حمامةٌ ... يميحُ بها غصنٌ وبالرِّيحِ ناضِرُ
تثنِّي جناحيها إذا آدَ غصنُها ... حذاراً وهولاً أنْ تزلَّ الأظافِرُ
يجاوبُها في الأيكِ منْ بطنِ بيشةٍ ... على هدبِ الأفنانِ ورقٌ نظائِرُ
صوادحُ مثلُ الشَّربِ يُبدي رنينُها ... منَ الشَّوقِ ما كانت تسرُّ السَّرائِرُ
كأنَّ الذي ننعَى لها الميتَ ملعبٌ ... لإصبهبذٍ تُجبى إليهِ الدَّساكِرُ
وقال رقيع:
غدتْ عذَّالتايَ فقلتُ مهلاً ... أفي وجدٍ بليلى تعذُلاني
أعاذلتيَّ مهلاً بعضَ لومي ... كفاني منْ عنائِكما كفانِي
أقلِّي اللَّومَ قدْ حرَّبتُ عيشي ... وقد علِّمتُ إنْ علمٌ نهاني
إذا طاوعتُ علمَكما فمنْ لي ... منَ الغيبِ الذي لا تعلَماني
خليليَّ انظُراني علَّني ... أُقضِّي حاجتي لوْ تربعانِ
ألمَّا بي على رسمٍ قديمٍ ... لليلى بينَ صارةَ والقنانِ
وقفتُ بها فظلَّ الدَّمعُ يجري ... على خدَّيَّ أمثالَ الجمانِ
نسائلُ أينَ صارت دارُ ليلى ... فضنَّ الرَّبعُ عنَّا بالبيانِ
نأتْ ليلى فلا تدنُو نواها ... ولو أُشفى بمنطقِها شفاني
وموماةٍ تملُّ العيس حتَّى ... تقطِّعها بغيطانٍ بطانِ
وهمٍّ قدْ قريتُ زماعَ أمرٍ ... إذا ما الهمُّ بالنُّصبِ اعتراني
قطعتُ بناتحِ الذِّفرى سبنتًى ... سبوحِ المشيِ عوَّامِ الحرانِ
أشجُّ بهِ رؤوسَ البيدِ شجّاً ... إذا ما الآلُ ألوى بالرِّعانِ
إذا ما القومُ منَّوا حادييهمْ ... دنوَّ الشَّيءِ ليسَ لهمْ يدانِ
هناكَ أُهينُ راحلتي ورحلي ... وما لرفيقِ رحلي منْ هوانِ
فذرْ هذا ولكنْ غيرَ هذا ... عنيتُ منَ المقالةِ أوْ عناني
فإنْ كانَ العداوةُ منكَ حقّاً ... تجدِّدُ لي إذنْ حتَّى تراني
فننظرُ ما لديكَ إذا التقيْنا ... وتنزعُ إنْ جريتَ وأنتَ وانِ
فإنْ تعجزْ فقدْ أبليتُ عجزاً ... وإنْ تصبرْ فأنتَ على مكانِ
توارثَني الغواةُ فجرَّبوني ... حفيظَ العقبِ جيَّاشَ العنانِ
ليَ السَّبقُ المبرِّزُ كلَّ يومٍ ... إذا صاحَ الجوالبُ بالرِّهانِ
أصابَ الدَّهرُ منْ جسدي وأبقى ... كما يبقى منَ السِّيفِ اليماني
وقدْ ضحكتْ زنيبةُ منْ شحوبي ... وشيبٍ في المفارقِ قدْ علاني
وماذا الشَّيبُ عنْ قدمٍ ولكنْ ... أشابَ الرَّأسَ روعاتُ الزَّمانِ
وهمٍّ داخلٍ أفنى ثناهُ ... سوادَ اللحمَ منِّي فابتراني
وما قالتْ مقالَتها بغشٍّ ... ولكنْ هوِّلتْ منْ أنْ تراني
وكانَ ليَ الشَّبابُ خليلَ صدقٍ ... فبانَ وما قليتُ ولا قلاني
كذلكَ كلُّ ندمانيْ صفاءٍ ... إلى أجلٍ هما متفرِّقانِ
وقال مسلم بن معبد الأسدي، وهو ابن عم رقيع، وخرج إلى الشام ليأخذ عطاءه فلما جاء المصدِّق وثب بنو رقيع على إبل مسلم فكتبوها، واعتدوا عليه فيها، وكان العريف منهم. فلما قدم مسلم أُخبر بما صنع بنو رقيع، فقال مسلم:
بكتْ إبلي وحقَّ لها البكاءُ ... وفرَّقها المظالمُ والعداءُ
إذا ذكرتْ عرافةَ آلِ بشرٍ ... وعيشاً ما لأوَّلهِ انثناءُ
ودهراً قد مضى ورجالَ صدقٍ ... سعَوا لي كانَ بعدهمُ الشَّقاءُ
إذا ذُكر العريفُ لها اقشعرَّتْ ... ومسَّ جلودَها منهُ انزواءُ
وكدنَ بذي الرُّبا يدعونَ باسمي ... ولا أرضٌ لديَّ ولا سماءُ
فظلَّتْ وهيَ ضامرةٌ تعادَى ... من الجرّاتِ جاهدَها البلاءُ
تؤمِّلُ رجعةً منِّي وفيها ... كتابٌ مثلَ ما لزقَ الغراءُ