فالإنسان مخلوق من طين الأرض، ومن عناصرها تكون، لكن النفخة العلوية هي التي جعلت منه إنسانا، وصنفته ضمن مخلوقات الملأ الأعلى.
فالإنسان -إذن- مكون من جسم ومن روح، والجسم مكون من جميع الأجهزة والأعضاء، بما في ذلك السمع، والبصر، والعقل.. نعم العقل، فالعقل ما هو إلا جهاز من الأجهزة التي خلقها الله في الجسم؛ لتقوم بوظيفة من وظائف الجسم مثله في ذلك مثل جهاز السمع، وجهاز البصر، وجهاز النطق، وجهاز الهضم، إلى آخره. إلا أن هذا الجهاز مسيطر ومنظم لأجهزة الجسم الأخرى، ومع ذلك فأداؤه لوظيفته يتأثر بمدى صحة الأجهزة الأخرى وكفاءتها في العمل.
ولقد نفخ الله فيه من روحه؛ لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة لله في الأرض، وأن يتسلم مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها الله له، وتتطلبها مقتضيات العمارة من قوى وطاقات.
والإنسان يرتقي في معرفته وفي إعماره للكون، كلما اتصل بمصدر النفخة العلوية فيه، واهتدى به في استقامة، أما حين ينحرف عن ذلك المصدر فإن تيارات المعرفة في كيانه وفي حياته لا تتناسق، بل وتصبح خطرا على سلامة اتجاهه، وتقوده إلى نكسة في خصائصه الإنسانية، مهما تضخمت علومه وتجاربه في الحياة.
ولقد خلق الله الإنسان مزودا باستعدادات متساوية للخير والشر، كما خلقه مزودا بقدرات كامنة فيه قادرة على توجيهه إلى الخير وإلى الشر سواء، وجعل تبعة أعماله ومسئولياته تقع عليه وحده، ولقد أكد القرآن هذه القاعد في كثير من الآيات:
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8-10] .
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] .
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] .
من خلال الآيات السابقة يتضح لنا ما يأتي:
أن الإنسان كائن مخلوق مزدوج الفطرة، مزدوج الاستعداد، مزدود الاتجاه.
أنه بطبيعة تكوينه المزدوجة "من طين الأرض، ومن نفخة الله فيه من روحه" مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال.
أنه قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير والشر سواء، وأن هذه القدرة على التمييز والتوجيه كامنة في كيانه،