يتركه الإنسان تقربا لله واحتسابا فهو عبادة، وكل شعور نظيف في باطن النفس فهو عبادة، وكل امتناع عن شعور هابط من أجل مرضاة الله فهو عبادة، وكل ذكر لله في الليل والنهار فهو عبادة، ومن ثم تشمل العبادة الحياة، ويصبح الإنسان عابدا لله حيثما توجه إلى الله"1.
وهكذا ... تصبح العبادة من مظاهر التجمع والتوجه في الكينونة الإنسانية، حيث يصبح النشاط الإنساني كله حركة واحدة متجهة إلى تحقيق غاية الوجود الإنساني وهي العبادة.
مكافأة العبودية:
والله -سبحانه- يكافئ كل خلقه على عبوديتهم له:
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] . فالإنسان كما يساوي غير من الموجودات في هذا الكون في عبادة الله، يساويها كذلك في نيل المكافأة، وكل ما يرى من فروق في أشكال المكافأة التي ينالها الإنسان وتنالها الموجودات إنما ترجع إلى الفروق بينهما في القابلية والحاجات. فالفروق هنا من ناحية شكل المكافأة، لا أصل المكافأة.
وينال المؤمن والكافر مكافأة العبودية لله إذا أخذ بالسنن الكونية، والمقصود بالعبودية هنا عبودية الفطرة التي فطر الله الناس عليها، التي عبر عنها ابن تيمية بـ"توحيد الربوبية"، وعبر عنها المودودي بـ"العبادة الفطرية"، لكن المكافأة لغير المؤمن هنا مقصودة على الحياة الدنيا فقط، على حين أنها تكون للمؤمن في الدنيا والآخرة.
بل إن الكافر إذا فاق المؤمن في الأخذ بقانون الفطرة، كأن يكون أمهر منه في العمل، أو أكثر منه جدية فيه، أو أفضل منه أخذا بالأسباب، فإنه ينال مكافأته على تلك "العبادة" بأحسن مما يناله المؤمن2؛ لأنه أخذ بالسنن الإلهية التي يسير الكون بموجبها. لكن هذه المكافأة لا تعدو أن تكون في حقيقتها متاع الغرور؛ لأن غير المؤمنين ينسبون آثار الأعمال للأسباب الظاهرة، بينما المؤمن ينحي الأسباب الظاهرة، ويرد كل شيء إلى الله.
إن المؤمن الذي يأخذ بالأسباب، بكل الدقة والمهارة المطلوبة للعمل، وهو في نفس الوقت يراقب الله في العمل، أو يحس بأن الله يراه، هذا المؤمن له متاع الحياة الدنيا خيرا، ونصرا، وقوة، وتمكينا في الأرض، وقيادة لها، وله في الآخرة جنات