السيرافي عن رجل غض من قدر الجاحظ عند ابن العميد، وكان ابن العميد وزيرًا جليلًا كاتبًا شاعرًا فارسًا عالمًا جليل القدر في نواحٍ عديدة من نواحي المعرفة.
يقول أبو القاسم السيرافي: حضرنا مجلس الأستاذ أبي الفضل ابن العميد الوزير فجرى ذكر الجاحظ، فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به، وسكت الوزير عنه، فلما خرج الرجل قلت له: سكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك على الرد على أمثاله، فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو واقفته وبينت له النظر في كتبه صار بذلك إنسانًا يا أبا القاسم، فكتب الجاحظ تعلم العقل أولًا والأدب ثانيًا، ولم أستصلحه لذلك1.
إذن فالجاحظ رائد كبير من رواد التأليف في الفكر العربي، والعقل الإسلامي عاش للعلم جامعًا وهاضمًا، ومانحًا، وللكتاب قارئًا وخادمًا ومؤلفًا، ملأ سماء زمانه فكرًا وحركة وعلمًا على صفحات الكتب وبين دفات المجلدات.
فما هي كتب الجاحظ تلك التي تعلم العقل والأدب حسب تعبير الوزير الجليل أبي الفضل ابن العميد وكم عددها وما موضوعاتها، وما أهمها قيمة وأجلها قدرًا؟
مؤلفات الجاحظ ومنهجه:
أما عدد كتب الجاحظ فيما يروي سبط الجوزي في كتاب مرآة الزمان فهي ثلاثمائة وستون كتاب، وهو بذلك يكون أوفر المؤلفين المسلمين عدد كتب، وهي في الوقت نفسه من أرفعها قدرًا وأسماها علمًا. وكتب الجاحظ ليست كلها مجرد تصنيف ولكنها في أكثرها ابتكار وخلق وإبداع بحيث نستطع أن نقرر أنه أول من مارس التأليف الحق في علوم الدنيا بين أساتذة العربية وعلماء الإسلام. وقد شهد له محبوه من أمثال ابن العميد، وثابت بن قرة كما أقر بفضله شانئوه من أمثال أبي هفان والمسعودي صاحب "مروج الذهب" الذي يقول عن مؤلفاته: "وكتب الجاحظ -مع انحرافه المشهور- تجلو صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل ومن حكمة بليغة إلى نادرة طريفة. وله كتب حسان، منها البيان والتبيين، وهو أشرفها؛ لأنه جمع فيه بين المنثور والمنظوم، وغرر الأشعار ومستحسن الأخبار وبليغ الخطب ما لو اقتصر عليه مقتصر لاكتفى به، وكتاب الحيوان، وكتاب الطفيليين والبخلاء"2.