صدقوك يا أمير المؤمنين، وحدثني عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن الحسن، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سِداد "بكسر السين" من عوز" وهنا يستوي المأمون في مجلسه ويوجه سؤالًا ربما لم يخل من غضب إلى النضر قائلًا: السداد "بفتح السين" لحن عندك -أي من وجهة نظرك- يا نضر؟ فيجيب النضر: نعم ها هنا يا أمير المؤمنين، فيقول المأمون في غضب: أوتلحنني؟ وهنا يرد النضر بكل أدب وذكاء وجرأة: إنما لحن هشيم يا أمير المؤمنين وكان لحانًا فتبع أمير المؤمنين لفظه. وهنا يهدأ المأمون لهذه اللباقة، ويقول: وما الفرق بينهما -أي بين لفظة السَّداد المفتوحة السين والسِّداد بكسرها، فيجيب النضر: السَّداد -بالفتح- هو القصد في الدين والطريقة والأمر، والسَّداد -بالكسر- البلغة وكل ما سددت بها شيئًا فهو سِداد، ثم يستشهد النضر ببيت للعرجي الشاعر، والبيت مشهور:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
وهنا يطرق المأمون مليًّا ثم يقول: قبح الله من لا أدب له. ثم يطلب من النضر أن ينشده أخلب بيت للعرب فينشده أبياتًا لحمزة بن بيض، فيسر المأمون كل السرور ويقول له: لله درك، كأنما شق لك عن قلبي، ثم يطلب منه أن يشنده أنصف بيت للعرب، ثم أقنع بيت للعرب، والنضر يختار له من الأبيات أنسبها وكان راوية أديبًا، فيكتب المأمون شيئًا في ورقة ويعطيها لغلام واقف على بابه ويطلب إليه أن يصطحب النضر إلى الوزير الفضل بن سهل، فلما قرأ الفضل الكتاب قال: يا نضر، إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب؟ فقص عليه النضر القصة، فقال له: لحنت أمير المؤمنين؟ فقال النضر: لا وإنما لحن هشيم بن بشير وكان لحانًا فتبع أمير المؤمنين لفظه، فأمر له الفضل بثلاثين ألفًا أخرى وهكذا يكون النضر قد استفاد ثمانين ألف درهم من حرف واحد1.
إننا لم نذكر هذه القصة من أجل الثمانين ألفًا التي حصل عليها النضر بسبب كبسر السين، وإنما ذكرناها لنرى أي نوع من الرجال كان هذا الصنف من علمائنا جرأة ولباقة، وكيف أنه لم يهب تصويب المأمون، أكثر ملوك العباسيين ثقافة وعلمًا، حين أخطأ ولكنه في الوقت نفسه صوب خطأه في قالب مهذب لم يجرح كبرياءه كملك له في العلم سهم وله في الثقافة نصيب.
فماذا ألف النضر من كتب في زمانه هذا الباكر؟ يقول ابن خلكان: إنه ألف كتبًا كثيرة أهمها "كتاب الصفات"، ويتكون من خمسة أجزاء، الجزء الأول منه ما يحتوي على خلق