فأجاب المفضل الضبي الخليفة إجابة تبدو صادقة مقنعة، وأما حماد، فقال: ليس هكذا قال زهير، يا أمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ فأنشد حماد بيتين سبق بهما الاستفتاح المعروف، الأمر الذي أدخل الشك في روع المهدي، فأطرق ساعة ثم التفت إليه واستحلفه بأيمان البيعة وكل يمين محرجة عن مدى توثيق هذه الأبيات، فلم ير حماد بدًّا من أن يعترف للملك العباسي ذي الحس النقدي ويقر أنها من قوله. فما كان من المهدي إلا أن أمر له بعشرين ألف درهم وللمفضل بخمسين ألفًا، ثم أمر حسينًا خادمه أن ينادي: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادًا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفًا لصدقه وصحة رواتيه، فمن أراد أن يسمع شعرًا جيدًا محدثًا فليسمعه من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل1.
هذا ولقد عاش المفضل إلى حكم الرشيد، وله معه أخبار أدبية طريفة، فقد سأله الرشيد ذات يوم: ما أحسن ما قيل في الذئب ولك هذا الخاتم الذي في يدي وشراؤه ألف وستمائة دينار؟ فقال المفضل على الفور: قول الشاعر
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
فقال الرشيد معجبًا، وربما متحسرًا: ما ألقي هذا على لسانك إلا لذهاب الخاتم، ثم أعطاه إياه. فاشترته أم جعفر بألف وستمائة دينار وبعثت به إلى الرشيد قائلة: قد كنت أراك تعجب به، ولكن الرشيد -بما عرف عنه من هيبة- ألقاه إلى الضبي قائلًا: خذه وخذ الدنانير، فما كنا نهب شيئًا فنرجع فيه2.
هذا وللمفضل مجموعة من الكتب أشهرها بطبيعة الحال كتابه المفضليات الذي جمعه المهدي وسوف يأتي حديثه في مكانه من هذا الكتاب، وأما كتبه الأخرى فهي الأمثال، وهو مطبوع أيضًا، وكتاب معاني الشعر، وكتاب الألفاظ، وكتاب العروض.
لقد كانت بداية طيبة مباركة في دنيا التأليف والأدب على كل حال.