هذا ما كان من أمر كتابة يحيى بن يعمر، وهي في تقديرنا -إن كنا على جانب السلامة من الاستنتاج- أول كتابة فنية مستكملة أسباب البلاغة والبيان بمقياس عصرها، فقد كان الإيجاز آنذاك آية البيان وعنوان البلاغة، على أن قضية زمام الكتابة العربية التي هي أداة التعبير السليم عما يخالج العقل العربي في مرحلة تطوره الثقافي لم تنتقل فجأة وبغير تدرج حتى وصلت إلى سالم ثم عبد الحميد، فليس الأمر والحال كذلك على جانب من الصواب، وإنما انتقلت الكتابة من أنامل عربية خالصة ممثلة في يحيى بن يعمر العدواني القيسي والحجاج بن يوسف الثقفي، وقطري بن الفجاءة المازني إلى أنامل عربية قرشية هاشمية، ونعني بذلك عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. لقد طلب عبد الله الخلافة ونصب نفسه خليفة بالكوفة سنة 127هـ ثم انتقل إلى المدائن، واستولى على الجبال وهمذان وأصبهان والري واستفحل أمره وجبى الخراج وقصده بعض بني هاشم، مثل أبي جعفر المنصور الذي صار من أشهر ملوك العباسيين بعد ذلك بست سنوات أو سبع.
لقد كان عبد الله الطالبي هذا واحدًا من الرواد الذين روضوا الكتابة من مرحلة التقعر إلى منهج البساطة، وطورها من صورة التوعر إلى أسلوب السهولة، وهو في ذلك يشكل مرحلة بين المرحلتين، مرحلة يحيى بن يعمر ومن سار على دربه، ومرحلة عبد الحميد ومدرسته، فلننظر في هذه الرسالة الباكرة التي كتبت بكل تأكيد قبل عبد الحميد، يقول عبد الله1:
"أما بعد فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، ابتدأتني بلطف عن غير خبرة. ثم أعقبتني جفاء من غير ذنب، فأطمعني أولك في إخائك، وأيأسني آخرك من وفاتك. فلا أنا في اليوم مجمع لك اطراحًا، ولا أنا في غد وانتظاره منك على ثقة، فسبحان من لا يشاء الكشف بإيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة فيك، فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على اختلاف. والسلام1.
أرأيت كيف تطورت الكتابة بسرعة وفي ظرف حوالي ثلاثين سنة هذا التطور السريع البديع، من عربي لعربي، ولم يدخل إلى الساحة حتى الآن من واقع النصوص فارسي واحد؛ لأن سالم مولى هشام بن عبد الملك الذي قيل عنه إنه الإمام الحقيقي لمدرسة الكتابة العربية لم يظهر له أثر واحد، ومن المقطوع به أن عبد الله هذا لم يكن من أخدانه أو من تلامذته؛ لأن عبد الله على ما مر بنا القول خرج على بني أمية 127هـ وأنشأ ملكًا.