إلا ما وعاه في قلبه، هذا ومما هو جدير بالذكر أن أبا عمرو عاش بين سنتي 70-154هـ.

وتتسع الدائرة التي توضح الصورة لنا أكثر وأكثر في نطاق التأليف عندما يروي الأصبهاني أن هناك من أنشأ مكتبة عامة، وأنه قصر قراءها على خاصته ووفر لهم الأوراق والأقلام حتى يتيسر لهم النفع والفائدة، أو بعبارة أدق كان هناك من جعل من بيته ناديًا في العصر الأموي، اشتمل على وسائل الترفيه من شطرنج ونرد، وجعل من جملة وسائل الترفيه الذهني دفاتر من كل علم، أي من علوم دينية وأخرى دنيوية، وتيسيرًا لمهمة القراء والقصاد جعل في الجدار أوتادًا فمن جاء زائرًا أو قارئًا علق ثيابه على وتد منها، ثم جرد دفترًا فقرأه أو نهض إلى بعض ما يلعب به فلعب به. إن صاحب هذا المنتدى وهذه المكتبة هو عبد الحكيم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الذي عاش في عصر بني أمية1.

وهكذا يمكن أن نقرر أن التدوين والتصنيف لم يبدأ في العصر العباسي حسبما ظن الدارسين الذين بزعمهم هذا يجعلون قضية الثقافة والتأليف تبدو وكأنها فرع من الثقافة الفارسية وليست العربية، وإنما بدأ التدوين منذ العهد الإسلامي الباكر، وهذه الأخبار التي أوردنا يمكن أن تشكل الأسباب الواقعية لذلك، غير أنه على عهد العباسيين كانت موجة التأليف قد تضخمت، ودائرته قد اتسعت، وأصوله قد تفرعت، وفروعه قد أثمرت، وهذه سنة النشوء يبدأ الشيء صغيرًا ثم يتدرج مع الأيام نموًّا، وكلما مرت الأيام كانت خطوات التقدم أوسع من ذي قبل، هذا ولا شك أن عامل الضياع الذي تعرضت له الكتب العربية ومن بينها الكتب التي صنفت في العصر الباكر قد جعلت الصورة غير واضحة المعالم عند من يهملون ربط الأحداث التاريخية ولا يأخذون ظاهرة تدرج النمو الثقافي وتداخله عند الأمم مأخذ العناية والالتفات عندما يعرضون لقضايا البحوث الثقافية والحضارية.

وهناك كلمة حق يجب أن تقال، وهي أنه لا العرب ولا الفرس أصحاب فضل في التدوين ثم التأليف وإنما الفضل يكمن في العقيدة الجديدة التي حضت الجميع على العلم ودفعت بهم إلى المعرفة فكان التصنيف، ثم التأليف ثمرتين لهذه المعرفة، وكان مر أن الدقة وسلامة المنهج وسمات التأني وعلامات التثبت كلها نابعة من التجربة الرائدة التي قام بها علماء الحديث على مدى أعوام موصولة متتابعة في حلقة عقود متلاحقة من السنين في نطاق قرون مرتبطة من الزمان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015