فكلهم أسلموا وعاشوا في الإسلام طويلًا، بل إن منهم من عاش في الإسلام خمسين سنة مثل النابغة الجعدي الذي هجر الخمر، والأوثان قبل الإسلام، ثم أسلم وأدرك صفين مع علي بن أبي طالب، ومنهم من حضر الفتوحات وأبلى فيها بلاء حسنًا، وهو أبو ذؤيب الهذلي واسمه خويلد بن خالد بن محرث ومات سنة 27هـ بعد أن شهد فتح إفريقية، والشماخ بن ضرار من كبار الشعراء المخضرمين وألمعهم، وقد بايعه الحطيئة قبل أن يموت، وقال وهو يحتضر: أبلغوا الشماخ عني أنه أشعر غطفان، وأما لبيد فإنه رغم إسلامه وأنه عمر بعد الإسلام طويلًا فإنه احترامًا لتدينه أقلع عن قول الشعر منذ أن أسلم، ولم يقل غير بيت واحد هو:

ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلح الجليس الصالح

وكان كريمًا جوادًا وهو صاحب المعلقة المشهورة:

عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها

وقد يكون ابن سلام على حق في نسبته لبيدًا إلى الشعراء الجاهليين فشعره كله جاهلي أما شخصيته فإسلامية أو بالأحرى مخضرمة.

ويمضي ابن سلام على رسله في هذا التصنيف الذي تفرد به فيجعل طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص وعلقمة بن عبدة -وهم من الشعراء في الذروة- من الطبقة الرابعة. ويضع عمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد والحارث بن حلزة في الطبقة السادسة ولا يذكر سببًا لتأخير هؤلاء الثلاثة المبرزين وزحزحتهم إلى هذا السفح البعيد كثيرًا عن القمة.

وبين شعراء الطبقة التاسعة يضع ابن الجمحي سحيمًا عبد بني الحسحاس وكان ذلك مثارًا لتساؤلنا عن السبب الذي جعل الجمحي يضع سحيمًا في موكب الشعراء الجاهليين مع أنه ولد في أوائل عصر النبوة ورآه الرسول، ويقال إنه أعجب بشعره وكان عبدًا حبشيًّا يجيد الشعر ولا يجيد النطق، وكان كلما أعجب ببيت شعر له قال: أحسنك والله أي أحسنت والله، ولقد قتله سادته بنو الحسحاس سنة 40هـ؛ لأنه كان يشبب بنسائهم، وقد قص ابن سلام بنفسه بعض الأبيات التي أنشدها لعمر بن الخطاب، وهي أبيات جيدة رغم خبث غرضها، وكان عبد الله بن أبي ربيعة قد اشتراه وكتب بذلك إلى عثمان بن عفان وذكر له أنه -أي العبد- شاعر، فكان رد عثمان عليه أن أردده فلا حاجة بنا إليه فإنما حظ أهل العبد الشاعر منه أنه إذا شبع أن يشبب بنسائهم، وإذا جاع أن يهجوهم1، ويذكر ابن سلام قول

طور بواسطة نورين ميديا © 2015