والنسيان قد يؤدي بالشعر الذي في الحافظة إلى الضياع ما لم يتلقه راوية آخر.
لم يكن الحال والأمر كذلك ليستمر طويلًا، وبخاصة بعد أن أخذت أسباب الرقي الفكري تعم المجتمع الإسلامي. وعرف العرب الكتابة والقراءة. فكان من الطبيعي أن تولد ظاهرة التدوين، التدوين في كل مجال في الحديث وفي الأحكام وفي الشعر أيضًا، وكان الشعراء المحدثون على عهد بني العباس يكتبون شعرهم ويجمعونه في دواوين، أما الشعر السابق على تلك الفترة فكان إعادة تدوينه مع التعريف بأصحابه ومدى تقدم الواحد منهم على أقرانه أو تخلفه عنهم، أي دراستهم على أنهم طبقات يتفاوتون جودة ورداءة، نقول كان ذلك ضرورة أملتها طبيعة التطور فبدأت الحياة الأدبية تثمر، وظهر بعض العلماء الذين تحملوا هذا العبء كل على قدر استطاعته.
هذا وينبغي أن نلفت النظر بشدة إلى الدقة الكبيرة التي كان الشعر يروى بها في نطاق من أمانة الرواية واهتمام الرواة، وإذا وجدت حالات انتحال أو خطأ في الرواية فليس معنى ذلك أن المسألة كانت ظاهرة متفشية، وإنما هي حالات قليلة جرت في فترة بعينها ابتغاء كسب المال، وأما الأصل فهو الرواية الصحيحة الدقيقة ذات النهج الواضح، ولعل أمة من الأمم لم تحتفل بالرواية الصادقة، ووضع أصول لها كما فعل المسلمون عند اهتمامهم بجمع الحديث الشريف. إن الذين جمعوا الشعر لم يكونوا بعيدين كثيرًا عن الذين جمعوا الحديث ورووه، وقد وجد المدلس، والوضاع عند كل من الفريقين، فليس معنى وجود بعض المدلسين والوضاعين بين المحدثين أن حديث رسول الله لم يرو رواية صالحة، وبالتالي لا يعني وجود طبقة أو بالأحرى عدد من الوضاعين والملفقين في نطاق رواية الشعر أن الشعر المروي القديم قد فقد شيئًا من قيمته ومدى نسبته إلى أصحابه.