وأما المنصفون من الصفوة فكانوا لا يفرقون بين فضل العالمين الجليلين، فهذا عالم كبير مثل أبي عمر محمد بن عبد الواحد يسأل عالمًا آخر هو أبو بكر السراج: أي الرجلين أعلم، أثعلب أم المبرد؟ فيتحير في إجابته ثم يردف قائلًا: ما أقول في رجلين العالَم بينهما1؟

وإذا كان بعض الناس يحكم للمبرد على ثعلب إذا تناظرا لحضور بديهة الأول وسرعة سياقه للنكتة واعتماده على الطرفة في حواره، فإن المبرد نفسه يشهد لثعلب على سائر الكوفيين بقوله: أعلم الكوفيين ثعلب2.

هذا والأخبار تذهب إلى أن ثعلبًا كان أوفر أمانة وأكثر ثقة في علمه من المبرد، وكان لا يتحرج من قول "لا أدري" إذا ما ووجه بمسألة لا يعرف جوابها، على عكس المبرد الذي كان يخجل من أن يعترف بجهله إذا سئل عن مسألة غريبة عليه، وكان يسارع إلى وضع إجابة يضعها وضعًا، وقد مرت بنا قصته مع عيسى بن ماهان، وقصة "القبعض" أما ثعلب فقد سأله سائل ذات مرة عن مسألة لا يعرفها فقال: لا أدري، فقال له السائل: أتقول لا أدري وإليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد؟ قال له أبو العباس ثعلب: لو كان لأمك بعدد ما لا أدري بعر لاستغنت. تلك في حقيقتها أخلاق العلماء، فإن العالم الذي يحيط بكل شيء علمًا لم يخلق بعد إلا أن يوحى إليه في زمان توقف فيه الوحي وطويت الصحف3.

فأما كتب ثعلب ومؤلفاته فهي عديدة نفيسة القدر جليلة الفائدة، وهي صورة دقيقة لعلم الرجل وغزارة مادته وفيض عطائه. لقد أحصى المترجمون له أربعة وعشرين كتابًا، طبع منها عدد غير قليل لعل أهمها المجالس ويقع في جزءين، والفصيح، وقواعد الشعر، ومعاني الشعر، وشرح ديوان زهير، وشرح ديوان الأعشى، ومعاني القرآن، وإعراب القرآن، وما تلحن فيه العامة، والشواذ. ومن تصانيفه أيضًا: كتاب المصون، واختلاف النحويين والقراءات، والتصغير، وما ينصرف وما لا ينصرف، والأمثال، والأيمان والدواهي، والوقف والابتداء، والألفاظ، والهجاء، والأوسط، والمسائل، وحد النحو، تفسير كلام ابنه الخسي، استخراج الألفاظ من الأخبار، ما يجزئ وما لا يجزئ4.

إنه رصيد من الكتب نفيس تركه العالم الجليل أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني

طور بواسطة نورين ميديا © 2015