1- استخدام ابن خلدون أسلوب المعيشة كمعيار أساسي في التفرقة بين شكلي المجتمعين الأساسيين اللذين لاحظهما في جولاته الواسعة, وهما مجتمع البداوة1 ومجتمع الحضارة، والأول مجتمع يستنفد أفراده طاقتهم في إشباع حاجات الحياة الضرورية من طعام ومأوى عن طريق الصيد أو تربية الماشية أو الزراعة, وبمجرد انتقال أفراد مثل هذا المجتمع البدائي من حياتهم البدوية "أي: البدائية" الصعبة إلى حياة المدينة السهلة, وتغير أسلوب معيشتهم فإن كل صفاتهم وطبائعهم تتغير بالتالي. ونظرا لأهمية هذا الفرض المنهجي نسجل رأي ابن خلدون بالتفصيل:

"اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش. إن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام، وإنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد, ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي. وهؤلاء سكان المدن والقرى والجبال.. الحضر، ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان. ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع, ومنهم من ينتحل التجارة. وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو؛ لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم.. فيتخذون القصور والمنازل، ويجرون فيها المياه ... فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة. ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها. ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة, وأمكن نفسه إلى قياد المدينة"2.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015