الكريم وإن نزل بلغة العرب، فليس يشبه كلامهم من كل وجه ولا يخالفه من كل وجه، فهناك أوجه اتفاق، كما أن هناك أوجه اختلاف فمن أوجه الاختلاف ما قال الجاحظ: "سمّى الله تعالى كتابه اسما مخالفا لما سمّى العرب كلامهم على الجملة، والتفصيل، سمّى جملته قُرآنا ما سمّوا ديوانا وبعضه سورة، كقصيدة، وبعضها آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية. وإذا ما تأملنا قصائد الجاهلية، وجدنا أنها تسير على نظام معيّن حيث ابتداء بالنسيب والبكاء على الأطفال والديار، ثم يصل الشاعر إلى غرضه من الفخر أو المدح أو الرثاء، ولا شك أن المناسبة قائمة بين أجزاء القصيدة وأبياتها.
أما بالنسبة إلى ما ذكره الشوكاني من إنكاره ترتيب القصائد المختلفة الموضوع كمدح والهجاء والرثاء، أو ترتيب الخطب التي قبلت في مناسبات مختلفة، فهذا غير وارد، وذلك لأن كثيرا من القصائد التي وصلتنا على قلتها لم تكن لتنجو من تلاعب رواة الشعر بين تقديم وتأخير، وحذف وتغيير، ولأن العرب كانوا أمة أُمية لا يقرؤون ولا يكتبون، ومن ثم لم يؤلفوا كُبُبا حتى تحتاج إلى ترتيب وتنسيق، وحينما تحولوا إلى أمة علمية بمجيء القرآن ودخولهم في الإسلام، وجدنا الكتب المصنفة المرتبة، ووجدنا المناسبة تجمع أشتات هذه الكتب وموضوعاتها، وهكذا توزعت الكتب واختلفت باختلاف موضوعاتها وفنونها فكتب الفقه وكتب التفسير، وكتب الحديث وكتب التاريخ الخ. . .
وكل كتاب يبدأ بما يناسب الابتداء، ثم يقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، ثم تأتي الخاتمة، وكذلك الشعراء فإنهم لا ينشرون دواوينهم هكذا اعتباطا، وإنما يعمدون إلى القصائد التي يجمعها موضوع واحد، أو مناسبة ما فينشرونها في ديوان واحد تحت عنوان واحد، وليس هذا شأن العرب وحدهم، وإنما هو شأن البشرية كلها في الشرق والغرب، بل إن الشوكاني نفسه، شعر حينما استطرد في كلامه عن المناسبة أنّه خرج عن الموضوع الذي كان فيه وهو تفسيره لسورة البقرة، فاعتذر عن ذلك وقال: "إنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام". فهو يريد بذلك أن يبين للقارئ مناسبة هذا الكلام الذي انْجرّ