التّالي إِلى بَيْتِ المَقْدِسِ وانْتَزَعَهُ مِنْ أصْحَابِهِ الأرَاتِقَةِ، ثُمَّ سُرعانَ ما تَوَجّهَ الصّلِيبِيُّونَ لِبَيْتِ المَقدِسِ كَأنّهَا مُؤَامَرةٌ واتّفَاقِيّةٌ بَينَ الطّرَفَينِ، يَسْتَوْلِيْ الأَفْضَلُ عَلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، لِيَتِمَّ تَسْلِيمُ البِلادِ بِدمٍ باردٍ إِلى يَدِ الصّليبيينَ، وليسَ أدَلُّ على ذَلِكَ مِنْ أنَّ الأفْضَلَ لمَّا عَلِمَ بِتَوَجُّهِ الصليبيينَ إلى بيتِ المَقْدِسِ توجَّهَ عائِداً إِلى الْقَاهِرَة.

وكانتِ القُوَّاتُ الصَّلِيبيَّةُ التِّي حَاصَرَتْ بيتَ المَقْدِسِ، في غايةِ التَّعَبِ والإنْهَاكِ من شِدَّةِ الحَرَارَةِ التّي لَمْ يَعْتَادُوا عَلَيهَا في بِلَادِهم، حتَّى أنَّ الماشِيَةَ والأغْنَامِ هَلَكَ عددٌ كبيرٌ منهَا، بَلْ إنَّ عددَ الجيشِ الصليبيّ الذي كَانَ مُتوَجِّهًا لحِصَارِ بيتِ المقدِس لمْ يكُن كبيرًا، بِحَيْثُ يستطيعُ أنْ يصمُدَ في ظلِّ هذِهِ الظُّروفِ لَولًا خيانَة الرَّافضَة، وتَوَاطُئُهم معَ الصَّلِيبين. إذ بَلَغَ عدَدُهُم ألفًا وخَمْسَ مائةَ فارِسٍ، وعشرين ألفًا من المُشَاةِ، حتّى أنَّ المُؤَرِّخَةَ ابن تَغْرِيبَرْدِي قَالَ مُتَعَجِّبًا: "وَالعَجَبُ أنَّ الإفْرَنْج لمَّا خَرَجُوا إلى المُسلمينَ كانُوا في غايةِ الضَّعْفِ من الجوعِ وعدَمِ القوتِ، حتى أنَّهُم أَكَلُوا المَيْتَةَ، وكانتْ عسَاكِرُ الإسلامِ في غايَةِ القُوَّةِ والكَثْرَةِ، فَكَسَرُوا - أي الصَّليبيون - المسلمين وفَرَّقُوا جَمْوعَهُم". وبعدَ حِصَارٍ دامَ أربعين يَوْمًا تمكَّنَ الصلِيبيُّونَ من دُخولِ بيتِ المَقْدِسِ واحْتِلالِهَا في شَهْرِ شَعْبًان، في سَنةِ أرْبع مائةِ واثْنَتَيْنِ وتسعينَ لِلْهِجْرَةِ.

وراحُوا يُقتِّلونَ المسلمينَ، ويُحَرِّقونَ مَا كَانَ ببيتِ المَقْدِسِ من مَصَاحِفٍ وكُتُبٍ، حتّى بلَغَ عددُ القَتْلَى مَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ ألفٍ منَ المُسلمينَ منهُم الأئمَّةُ والعلماءِ والعُبَّادِ. وظَلُّوا على هذهِ الحَالَةِ منَ التَقْتِيلِ والتنْكيلِ أُسْبُوعًا كامَِلًا لدرجة أنَّهُ لماّ أراَد قَائدُهُم الصَّليبي رِيمُونْد زِيارَة سَاحَة المَعبَدِ أَخَذَ يتلَمَّسُ طَريقَهُ تَلَمُّسًا من كثرةِ الجُثَثِ والدِّماء التي بَلَغَت رُكبَتَيْهِ.

وكان من جَرَائمِ الخلَفَاء العُبَيديين أنَّهُم يتَخَلَّصُونَ من كل وَزيرٍ يُنادِي بفريضَةِ الجِهادِ، ويرفَعُ لُوَاءَهُ على وجهِ السُّرعَة، ويظْهَرُ ذلكَ من خِلًالِ الفَتْرَةِ التي حَكَمُوا بها. فَهَذا الوزيِرُ الأفضلُ لمَّا كانَ مُتحَالِفًا مع الصَّليبيينَ كانَ منهُم مُقَرَّبا، ولَمَّا بدَأَ يَتَحَالَفُ معَ الدَّماَشِقَة الأترَاك لمواجَهَةِ الصليبيّينَ، قَامُوا باغتيَالِهِ في عَهْدِ الخَليفَةِ الآمِر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015