من حديث النفس (صفحة 285)

كل حي، ولكننا ننسى هذه الحقيقة بشعورنا وعواطفنا وتحجبها عنا شواغل يومنا وتوافه دنيانا، يقول كل واحد منا بلسانه: إن الموت حق وإنه مقدر على كل حيّ، ويقول بفعله: لن أموت، لقد كُتب الموت على كل نفس إلاّ نفسي، فلا يزال في العمر فسحة لي دائماً ولن يأتي أجلي أبداً.

وعاودت الدخول في الماء وأطلت البقاء فيه، وما أحسست -وأنا أتزحزح شبراً فشبراً- أني جاوزت هذه البركة وبلغت موضعاً من البحر عميقاً، علمت بعدُ أن فيه تياراً يتحاماه السباحون القادرون، فكيف بمن لم يكن يتقن من السباحة إلاّ فن الرسوب؟

وحاولت الوقوف فإذا أنا لا أجد الأرض الصلبة من تحتي، وحاولت أن أرفع رأسي فأنظر فإذا أنا لا أجد الهواء ولا أبصر شيئاً، وأحسست الماء الملح قد تدفق على فمي وأنفي، فأنا لا أملك إلاّ أن أبلعه وأنشقه. وبدأت أحسّ آلاماً لا تُصوَّر ولا توصَف، ليست في الرأس وليست في عضو من الأعضاء وحده، ولكنها في كل ذرة من جسدي وروحي ... وشعرت كأنْ قد ألقيت عليّ صخرة ضخمة وأن أعصابي تجذب من تحتها وتقطع كما تجذب خيوط الحرير مما خالطها من الشوك! وصار كل همي من دنياي أن أجد نسمة واحدة من الهواء فلا أجدها، فقلت: هذا هو الموت، هذا هو الموت الذي أفر من الكلام فيه والحديث عنه، والذي أراه بعيداً عني لم يحِنْ حينُه ولم يَدْنُ موعدُه، لذلك كنت أؤجل التوبة من يوم إلى يوم، أقول: إذا بلغت سن الشباب تبت، فلما بلغتها قلت: أتوب في الأربعين، فلما جاوزتها قلت: أنتظر حتى أتم بناء الدار، فلما أتممتها قلت: أتوب وأتفرغ إلى الله إذا بلغت

طور بواسطة نورين ميديا © 2015