من حديث النفس (صفحة 244)

أعرف بعد إلى أين المسير! ومشيت أكثر من أربعة عشر ألف يوم تباعاً، ولكن لم أدرِ إلى أين أمشي!

إنني أصحو كل يوم، فأكلم أهلي وآكل طعامي وأذهب إلى عملي، ثم أعود إلى داري فأكتب مقالتي أو أنظر في كتابي، أو أزور أصحابي أو ألهو بما يلهو به مثلي، ثم أنام لأصحو من الغد فأعيد الفصل ذاته ... والأيام تكرّ، والسنون تطوى، والعمر ينصرم، وأنا «أمثّل الرواية» الأبدية: صحو ومنام، وشراب وطعام، وصمت وكلام، ووداد وخصام ... أما أن أعرف نفسي وأخلو بها ساعة كل يوم وأسأل: من هي ومن أين جاءت؟ وفيمَ وُجدت وإلى أين تمضي؟ فهذا ما لم أفعله إلى اليوم. بل إني لأفر منها فراراً وأخاف أن أخلو بها، فأتشاغل عنها بحديث تافه أو كتاب سخيف أو لهو باطل، وإذا أنا أُلزمت صحبتها وعدمت الشواغل عنها ضقت بنفسي وضجرت وأحسست كأني سأجنّ!

وأنا أصرف العمر في قطع العمر وأجعل أكبر همي إضاعة يومي، كأني أُعطيت الحياة لأعمل على تبديدها، فإذا لم أجد ما أمزق به الوقت واضطررت إلى مواجهة الزمان في ساعة كساعات الانتظار ضقت بعمري، وضجرت وأحسست كأني سأجنّ!

إني أركض أبداً وراء المستقبل؛ ففي المستقبل أبلغ آمالي، وفيه أصلح نفسي، وفيه أنيب إلى ربي، وفيه أكتب تلك المعاني التي طالما جاشت بها نفسي ولم يجرِ بها قلمي، وفيه أؤلف الكتب الكبار التي طالما أزمعت تأليفها ... وفيه أصنع كل شيء. ولكن المستقبل لن يأتي أبداً، وحين يأتي يصير «حاضراً» وأذهب أفتّش

طور بواسطة نورين ميديا © 2015