من حديث النفس (صفحة 230)

لحقني طائفة من الطلاب يسألونني، فأقف لهم حتى ينفخ إسرافيل المدرسة في صُوره فيحشر الطلاب والمدرسون إلى نار العمل. فأصل آخر النهار بأوله وأنا قائم على أمشاط رجليّ ولساني لا يكف عن الدوران في فمي ... فغدوت الآن ولا عمل لي إلاّ القعود على كرسي القضاء، أقول الكلمة بعد الكلمة وأسمع سيلاً من الكلام مما له موضع أو ليس له مكان، وإلا كتابة القرارات (أي السجلات في عرف الفقهاء)، وقد كفاني الكاتب «أَحْمَدَ» الله فَعالَه كل ما سوى ذلك من الأعمال. وما ينغص عليّ هذه الراحة إلاّ خشية ثقل اللسان من كثرة الصمت فلا ينطلق -بعدُ- كما كان ينطلق، وإن كان ذلك نعمة تُرجى، وإن كان لساني هو مصدر أذاي ومن الخير لي أن يثقل أو يكِلّ!

أما «تعب البال» فلأني أحمل على عاتقي حقوق الناس وأحكم في الأعراض، وهي (لعمر أهل المروءة) أثمن من المال وأغلى، فإذا قمت أو قعدت لم أزل مفكراً في هذه القضية وتلك الدعوى، لا لصعوبة فيها أو تعقيد، فطريق القانون واضح لمن كان أكبر همه ظاهر القانون وكان دينُه عبادةَ حروفه، بل لأنفُذ من خلال الفكر إلى مقصِد القوانين، وهو إقامة العدل. فأنا أفكر لأعرف المحق من المبطل، وأنضو عن المتقاضيَين ثياب التصنّع والرياء لتبدو حقائقهم عارية، وما ذلك بالأمر اليسير ولا المطلب الهيِّن. وإذا كنت قد وصلت مرة بالفراسة في لحظة خاطفة إلى ما لا يوصل إليه بمرافعة شهود فذلك من فضل الله، بيد أنه لا يدوم، ولا بد من الرجوع إلى الحكم بالشهادات التي قد يعلم القاضي أنها شهادات الزور وأن الشهود فُسّاق لا عدالة لهم ولا تُقبل من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015