من حديث النفس (صفحة 220)

وكيف تبلغ بي الحماقة أن أقوم عن المائدة وفي الأطباق بقية؟

* * *

لا أكاد أشبع من الطعام ولا من القراءة ولا من النظر في هذا الفضاء الفسيح، وهذه الجنات المتسلسلة تبدو من شبّاكي يعانق بعضها بعضاً حتى يستلقي آخرها في أحضان قاسيون ... لا أكاد أشبع من شيء لأني خرجت من هذا المرض كمَن وُلد ولادة جديدة، فهو لا يعرف الدنيا قط، وهو ينظر إليها بعيني طفل ذكي يدهشه كل شيء ويود لو يمتلكه ويأكله أو تحتويه يده ... ولأني خرجت منه ضعيفاً مهدوداً ولقد كنت من قبله قوياً نشيطاً.

استحممت يوماً في البحر، ثم خرجت منه متوثباً متحفزاً أكاد أطير مما أحسّ في جسمي من النشاط، فسرت على الشاطئ حتى حاذيت الصخرة «الروشة»، تلك الصخرة القائمة في البحر كأنها الطاق العظيم، أو كأنها قوس نصر أقامه الماء الهيّن الليّن الذي انتصر بصبره وثباته في جهاده على هذه الصخرة العاتية المتكبرة فجعلها فارغة جوفاء، ولا تزال على عتوها وكِبرها ... سنّةَ الله في المتكبرين، لا يكونون إلاّ فارغين! تلك التي يدْعونها في بيروت «صخرة الانتحار» لأن المجانين، أعداء أنفسهم وأوطانهم، يلقون بأنفسهم منها يثبون إلى ... إلى جهنم! وكانت الشمس مائلة إلى المغيب، تمنح البحر آخر هباتها فيبدو براقاً لامعاً قد لبس حلّةً من النور، فأكبرت هذه المخلوقات: الشمس والبحر والصخر، ووقفت صاغراً حيال عظمة الطبيعة وجلال الطابع (جلَّ جلالُه)، ثم غلب عليّ هذا النشاط الذي أُحسّ وبلغ دماغي فملأه ادعاء

طور بواسطة نورين ميديا © 2015