من حديث النفس (صفحة 215)

وما بيننا وبينه إلاّ أن نخرج من باب المدرسة فندخل من بابه، نغافل «الحسكي» ونقفز فيلحقنا بعصاه ونحن نتضاحك ونروغ منه، نعدو في صحن الجامع الواسع النظيف حتى يكل المسكين ويتعب فيدعنا مكتفياً بما تسعده به قريحته من روائع فن الهجاء، فإذا انصرف عنا وذهب الحافز لنا على اللعب عقلنا ودخلنا نستمع إلى أصحاب الحلقات فيه. هذا هو الأموي لا يزال على عظمته وجلاله، لا يدانيه في وسعته وفخامته مسجد في دنيا الإسلام، غير أن صورته في ناظري قد تبدلت وامّحت روعتها وبطل سحرها. وماذا تصنع الجدران والسقوف إذا ذهبت الوجوه ومضى الساكنون وتغيرت الروح؟ لقد أضحى الأموي غيرَ الأموي؛ فلا دروسه تلك الدروس ولا علماؤه أولئك العلماء ولا جوّه ذلك الجو. إن المدن كالأشخاص؛ تُخلق كل يوم خلقاً جديداً. وقد ماتت دمشق التي نشأنا فيها، دمشق الإسلامية المرحة الفاضلة التي لم يكن فيها ماخور مشهور ولا ميسر ظاهر ولا عورات باديات ولا حانات ولا مُلهيات، وكانت فيها المرأة لبيتها والرجل لأهله، والعلماء عاملين بعلمهم مطاعين في أمتهم، والحي كالبيت الواحد في تعاون أهله وتعاطفهم، والمساجد عامرة والرجولة بادية، وأهل الدين لا يأكلون به الدنيا ولا يتخذونه تجارة ... فيا أسفي على دمشق التي ماتت! ويا رحمة الله على تلك الأيام: أيام لم نكن نعرف من الدنيا إلا المتع الفاضلة والفضائل الممتعة، نلهو ونلعب ولكن لا كلهو فتية اليوم ولا كلعبهم. كان أقصى ما نأتيه أن نركض في الأموي، أو ننقسم عند المساء قسمين فنقيم بيننا سوق حرب سلاحها المقالع والعصي. وقد نجرح أو نكسر، ولكننا نتعلم الرجولة والقوة، ثم نرجع متفقين. وأن نتلهى عن الدرس بقراءة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015