هذه الجدران ما رأت وتنطق الأبواب، وآه! لو تعي المغاني وتحدّث المباني! وأنّى؟ وما وعت قلوب الناس ولا وفت حتى يفي الجماد!
هذه نفسي أسائلها: هل تعرف النفوس الوفاء، وهي تدور مع الدهر الدوار كيفما دار، تلبس لكل حالة لبوسها وتتخذ لكل يوم ميزانه؛ فيهون عندها اليوم ما عزَّ بالأمس، ويرخص ما غلا ويغلو ما رخص، نرى الشخص فلا نباليه وقبلاً كان مناط حبنا، وكنا نقنع إن كان وصله حظنا من دنيانا أو كان موضع إكبارنا وكان رضاه نهاية متمنانا، ونمر بالمكان لا نلتفت إليه وفيه ذقنا حلو العيش ومره، وفيه أثر من أنفسنا وفيه بقايا من أعمارنا؟!
لقد عشت دهراً لو قيل لي فيه إنه سيأتي عليك يوم تجوز فيه بهذه المدرسة فلا تقف عليها إلاّ وقفة التذكر والحنين، ثم تمضي لطيتك وتنساها بعد خطوات، لما صدقت! فكيف هانت عليّ هذا الهوان وقد كانت بالأمس نصف دنياي؟ وهل دنيا التلميذ إلاّ داره ومدرسته والطريق بينهما؟ وقد كانت أبداً في فكري وحسّي: في الصباح حين أتوجه إليها، وفي النهار حين أكون فيها، وفي المساء حين أعود منها؛ قد تجمعت فيها أفراحي كلها وأتراحي وأصدقائي جميعاً وأعدائي، وكانت بضعة مني. بل كيف أنكرت ذلك الطفل الذي كان في سنة 1918 تلميذاً فيها يحمل اسمي وملامح وجهي؟ كيف جوزت لنفسي أن أطّرح آراءه، وأهزأ بأفكاره، وأحقّر ما كان يعظمه؟ لقد ذهب المسكين ولا أدري أين ذهب، وجئت من بعده، ولكني لم أنسَ حوادثه. فهل الذاكرة هي الشيء الفرد الذي يبقى ثابتاً في الإنسان على حين تبدل العقول والأجسام؟