من حديث النفس (صفحة 187)

العلوي الخالد، لذلك تخلد صلته به أبداً وتعلو. والولد يشارك أباه طعامه وشرابه، والمريد يشاركه فكره وشعوره. والولد يرث عن أبيه ماله، والمريد يرث علمه.

لا أعني أولاد الفقيد الجندي، فهم جميعاً من النابغين النابهين، ولكن هل يزعمون أنهم أحق باللوعة عليه مني؟ هل كانت الصلات بين شيخ الأدباء وبين أنجاله الأطباء أقوى من الصلات الفكرية بينه وبين تلميذه الأديب؟ وهل ما يمتّون به من صلة النسب أمتن في مقاييس الخلود مما أمُتُّ به من صلة الأدب؟

عفوَكم يا سادة، عفوَكم. لقد تركت طريق موضوعي لأني أبصرت رياض الذكريات تلوح لي عن يمين وشمال، فلم أتمالك أن تنكّبت طريقي لأقطف منها وردة أو زهرة أو أعود بشمّة من رياها وعطرها، وسأرجع إلى هذا الذنب مرات في هذا الخطاب!

وهل لكلمتي هذه موضوع؟ إن موضوعها ذكريات، ومتى حصرت الذكريات أرقام الحاسب وأشكال المهندس؟ ذكريات، وهل في الحياة أمتع من التعلل بكأس الذكريات، والنشوة بخمرة الأماني؟ وأنا أعلم -يا سادة- أن أثقل الكلام في ميزان الأذواق كلمة «أنا»، ولكني مضطر الليلة إليها؛ لأن الذكريات لا بد فيها من ذاكر، فكيف أنشر المطويّ من ذكرياتي أن أغفلت ذاتي؟ فائذنوا لي أن أعود إلى مواضي أيامي، إلى عهد الدراسة الابتدائية، يوم كان يحكم دمشق الرجل المرعب جمال باشا وصحبه الاتحاديون الملحدون، وكنا نحفظ الأسماء التركية نسردها كل صباح سرداً بلا فهم ولا علم، وكنا نقرأ النحو العربي بالتركية على المعلّم التركي،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015