وذو الشوقِ القديم وإنْ تسلّى ... مَشوقٌ حين يلقى العاشقينا
وإنه لواحد ممّن وأَدَ هذا المجتمع ما كان لهم من ملكات ... كانت له «نفس» فماتت، أفما يُترَك ليرثي -يا قوم- نفسه؟ يذهب مال الرجل فيبكي ماله، ويُحرق بيته فيندب بيته، وتودي تجارته فيُعْوِل على تجارته، ويهجره حبيبه فيأسى على فقد حبيبه ... وتموت نفسه ويجِفُّ في حلقه لسانه فلا يُطلَق ليبكي نفسه وينوح على بيانه؟!
* * *
في أصيل يوم من أيام الخريف من سنة 1928 وقف حيال جسر الزمالك في القاهرة شاب شارف العشرين من عمره، كان في السنّ التي يعيش فيها المرء للهوى والأحلام، فنظر إلى النيل مرة وإلى الفضاء الأرحب مرة، فذكّره الأفق البعيد المتّشح بأنوار الغروب بحلّته المنسوجة من خيوط الشمس بلداً له حبيباً إلى نفسه، هو أضوأ في عينيه من الأفق الذي توارى وراءه، وأمّاً له وإخوة كانوا هم جمال هذا البلد، وملاعب الصبا، ولِدات الطفولة ... ذكر دمشق، وكان له في كل بقعة منها ذكرى هي قطعة من حياته، وما حياة المرء إلاّ الذكريات! ذكرَ سفحَ قاسيون الأنيس وصخوره الضاحكة ضحك الجبروت، والربوةَ منبت الحبّ ومثوى الأماني، والغوطةَ جنة الدنيا وبستان الأرض، والميزانَ والشاذروان، والمِزّة وكيوان ... فهاج نفسَه الشوقُ وأثارها الحنين، فنسي مقعده في دار العلوم العليا، ونسي المطبعة السلفية في شارع الاستئناف التي تشرف فيها بلقاء الأعلام من علماء العصر من