فيا ليتني علمت من قبل أن الحياة مثل اللجة، يطفو فيها الفارغ ويرتفع، وينزل الممتلئ ويغوص!
* * *
أني لأتصور الآن كيف كنت أنظر في طفولتي إلى أبناء الثلاثين، أولئك الشباب الكُمَّل الذين بلغوا قمة الحياة وعرفوا الاطمئنان والاستقرار، فأجد بيني وبينهم بوناً شاسعاً وأرى أني لن أبلغ الثلاثين أبداً ... ذلك لأن كل ما أعلمه أني وُلدت وأنا ابن أربع سنين، فأُدخلت المدرسة، فكنت أعيش فيها سنة لأنجح في الامتحان وأرتقي من صف إلى صف وأستمتع بالعطلة. فلما أكملت دراستي العالية ولم يبقَ من مدرسة ولم يبقَ امتحان وقفت فلم أتقدم، وفقدت غايتي فلم أعد أحسُّ أني أعيش. ثم تلفتُّ إلى الماضي أعيش بذكراه، فأصبحت كلما انقضى عليّ عام رجعت فيه سنة إلى الوراء، فأنا أصغر كلما كبرت، وأدنو من الطفولة كلما نأيت عنها.
فمتى أبلغ الثلاثين، وأين أحط رحالي بعد هذا المسعى؟
* * *
وغشيت قلبي غاشيةٌ من غمّ، فأشعلت عوداً من الكبريت لأوقد المدفأة -وكنت في ذَهلة- فسرت النار في العود، ثم تأججت وتوقدت وأنا أنظر إلى اللهيب جامد العين محدقاً في عالم بعيد الغور، حتى أحسست بحرارة النار في يدي، فانتبهت وألقيت العود، فإذا هو قد استحال إلى فحمة سوداء ضعيفة تطير