عليه إطراح المسموع على الأكثر"1.
وأود هنا -بعد ما مر بك- أن أحرر هذا الأمر فأفرق بين القياس ذي الأصول المقررة والقياس المشوش الذي لا ضبط له. فالصحيح أن الفريقين كانا يقيسان، وربما كان الكوفيون أكثر قياسا إذا راعينا "الكم" فهم يقيسون على القليل والكثير والنادر والشاذ، ولم نعلم لهم مناهج محررة في القياس. أما البصريون فهم أقيس إذا راعينا "الكيف" -والحق مراعاته- فهم لا يقيسون إلا على الأعم الأغلب، ولهم في القياس أصول عامة يراعونها. والزمن حكم لعلمهم بالبقاء؛ إذ كان الأنسب والأضبط, فكان نحو الناس حتى هذا اليوم بصريا في أغلبه.
تصرفت الحياة في هذا الأمر بما لا يشعر به البصريون ولا الكوفيون، إذ إن لها اختيارها الخاص الملائم: تقبل ما يروقها وتحييه غير آبهة لما يقول هؤلاء ولا ما يقول أولئك، وإنما السليقة اللغوية الخفية في نفوس المتكلمين هي التي احتفظت بما كان أقرب لروح العربية الأولى, فمات بل لم يولد ما جانف هذه السليقة، فما أحد قال ولا يقول اليوم: "الرجال قام" وإن قال المذهب الكوفي بتقديم الفاعل على الفعل.
أما السماع فهل كان الكوفيون "يحترمونه" حقا كما قال الأستاذ أحمد أمين؟ "وهل كان لواؤه بيدهم لا يخفرون له ذمة" كما قال المرحوم الأستاذ طه الراوي؟ لعلك بعد ما سبق لك موقن معي أن السماعيين هم البصريون لا الكوفيون؛ فمن