أما محنة وكيع فكانت محنة عجيبة فيها نوع من الدرس أو الأدب.
قال الذهبي: وهي غريبة تورط فيها ولم يرد إلا خيراً، ولكن فاتته سكتة.
يقصد الذهبي بالسكتة حديث: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)، فالمقصود: ألا يحدث بهذا الحديث وإن كان سمعه، والحديث في مقدمة صحيح الإمام، قال الذهبي: فليتق عبد ربه، ولا يخافن إلا ذنبه.
قال علي بن خشرم: حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي: أن أبا بكر الصديق جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فأكب عليه فقبله، وقال: بأبي وأمي ما أطيب حياتك وميتتك، ثم قال البهي: وكان ترك يوماً وليلة حتى ربا بطنه -يعني: انتفخ بطنه- وانثنت خنصراه، كأنه تغير بالموت.
وهذا الحديث منكر ليس بصحيح، أي: فيه راو ضعيف سيئ الحفظ.
قال ابن خشرم: فلما حدث وكيع بهذا بمكة اجتمعت قريش وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبة لصلبه، فجاء سفيان بن عيينة إمام مكة فقال لهم: الله الله! هذا فقيه أهل العراق وابن فقيههم، وهذا حديث معروف.
ولم يقل: هذا حديث صحيح.
بل قال: معروف، ولم يقصد بالمعرفة الصحة.
قال سفيان: ولم أكن سمعته، إلا أني أردت تخليص وكيع، قال علي بن خشرم: سمعت الحديث من وكيع بعدما أرادوا صلبه، فتعجبت من جسارته، وأخبرت أن وكيعاً أصبح فقال: إن عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر قالوا: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد الله أن يريهم آية الموت.
فكان هذا تأويل وكيع لهذا الحديث، أن بعض الصحابة من هول المصيبة لم يصدقوا أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، حتى قال عمر: إني لأرجو أن يأتي فيقطع أيدي وأرجل رجال يزعمون أن محمداً قد مات.
قال الذهبي: هذه زلة عالم، فما لـ وكيع ولهذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد، وكادت نفسه أن تذهب غلطاً، والقائمون عليه معذورون بل مأجورون، فإنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود غضاً ما لمنصب النبوة، وهو في بادئ الرأي يوهم ذلك، ولكن إذا تأملته فلا بأس إن شاء الله بذلك؛ فإن الحي قد يربو جوفه وتسترخي مفاصله، وذلك تفرع من الأمراض، وأشد الناس بلاء الأنبياء، وإنما المحظور أن تجوز عليه تغير سائر موتى الآدميين وأكل الأرض أجسادهم يعني: لا تأكل الأرض أجساد الأنبياء، وإذا كان الشهداء كذلك فالأنبياء من باب الأولى ألا تتغير أجسادهم.
قال: وإنما المحظور أن تجوز عليه تغير سائر موتى الآدميين وأكل الأرض أجسادهم، والنبي صلى الله عليه وسلم مفارق لسائر أمته في ذلك، فلا يبلى ولا تأكل الأرض جسده ولا يتغير ريحه، بل هو الآن -وما زال- أطيب من المسك، وهو حي في لحده حياة أكبر من حياة سائر النبيين، وحياتهم -بلا ريب- أتم وأشرف من حياة الشهداء الذين هم بنص الكتاب: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].