شرح الله صدر نبيه صلى الله عليه وسلم فعاش أعظم وأكمل عيشةٍ عرفها البشر على وجه الأرض، وأوتي أعظم نصيب من شرح الصدر في الدنيا حتى قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] شرح الله صدره رغم أن الإمكانيات المادية التي كانت تحيط به لا تدعو إلى شرح الصدر، شرح الله صدره وهو يصعد إلى الطائف ويدعوهم ويرفضون دعوته بعد أن كان عمه أبو لهب يلاحقه -عليه من الله ما يستحق- كان يطارده، فأعرف الناس بالرجل أهله وذويه، فلما انتهى من خطبته وهو يعظ الناس ويدعوهم إلى لا إله إلا الله وقف الخبيث بجواره وقال: من هذا؟ قالوا: هذا ابن أخيك، قال: ومن أنا؟ قالوا: وأنت عمه، قال: أنا أعرف به، والله لو كان صادقاً لكنت أول من صدقه، فإنه كذاب فكذبوه كلهم، وما رجموه هم وما طردوه وإنما أغروا به السفهاء، حتى أدموا عقبيه الشريفة صلى الله عليه وسلم، يطارده الصبيان في أزقة الطائف وبين بساتينها حتى أدموا رجليه وهو صلوات الله عليه وسلامه عليه صابرٌ محتسب منشرح الصدر، وما أعظم ممن يكذب وهو صادق! ما أعظم منه أن تكون صادقاً وتأتي تقول كذا، ويقولون: لا.
كذاب، ومن يكذبك؟ ألصق الناس بك، وبعد ذلك يجلس صلوات الله وسلامه عليه عند حائط من حيطان العنب، وهو يشكو أمره إلى الله ويقول: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني أم إلى قريبٍ ملكته أمري، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح به أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك، أو أن ينزل بي عذابك، لك العتبى حتى ترضى ولك العتبى بعد الرضا) صلوات الله وسلامه عليه.
ومع هذا الظرف القاسي أيضاً كان صدره مشروحاً، ويعود صلوات الله وسلامه عليه وفي الطريق يقول له جبريل رسولاً من رب السماوات والأرض: (هذا ملك الجبال إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل) ولكن لو كان ضيق الصدر، ومحدود النظر، وفردي النزعة، أو أناني النظرة لانتقم لنفسه وقال: نعم.
هؤلاء لا خير فيهم كما يصنع بعضنا الآن، من الدعاة من إذا كذب أو رد أو قيل فيه شيء أرغى وأزبد ولا يتحمل أبداً، يريد أن يكون داعية بدون تحمل، لا يمكن أبداً، يريد أن يدعو الناس وإذا قال له أحد شيئاً ضاربه، لا يا أخي! ليست هذه دعوة، هذا الذي تدعوه مريض جاهل سقيم وأنت طبيب، أما ترى الطبيب إذا دخل على المريض، المريض يشتمه والطبيب يبتسم له؟ المريض ينفر منه ويدقه ويقول: اتركني لا أريد، لكن يقول: لا من أجل خاطري خذ هذه الحبة الإبرة المرهم العلاج، لماذا؟ لأنه طبيب فأنت طبيب، أتريد من كل من تدعوه أن يقول لك: جزاك الله خيراً، والله ويبارك فيك، وعلى الرأس والعين، وإلا قامت الدنيا وقعدت في نظرك، وقلبت للناس ظهر المجن، وكلت لهم الصاع صاعين، ولماذا تفعلونه، ولماذا تقولون؟ لا.
ليس هذا أسلوب الدعوة، أسلوب الدعوة أن تحلم وتعفو، وألا تنتقم لنفسك بأي حالٍ من الأحوال؛ لأنك تضع نفسك في سبيل ربك فيهون عليك كل شيء.
فلو كان صلى الله عليه وسلم بشرياً في هذه الناحية ولم يكن ربانياً لقال: نعم.
هؤلاء لا خير فيهم، دعوتهم وعددت لهم الأساليب، ونوعت لهم الطرق فرفضوا، أطبق عليهم الأخشبين، لكنه قال: (لا.
ولكني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده) نظرة الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة بعيدة، يقول: إذا كان هؤلاء قد تحجرت قلوبهم وجبست رءوسهم فما يدريك لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله، وكان حقاً أن أخرج الله من أصلاب هؤلاء الكفار صناديد من كبار الصحابة ومن قواد الإسلام: خالد بن الوليد بن المغيرة وعمرو بن العاص من العاص بن وائل، وعكرمة بن أبي جهل من أبي جهل وعلي بن أبي طالب من أبي طالب، يعني كبار الصحابة كلهم من أولاد الكفار، صلوات الله وسلامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شرح الله صدره وهو في الغار يطارد ويهدد بالاستئصال وبالقتل، ويجعل صناديد مكة وكفارها مئات الإبل لمن يأتِ به حياً أو ميتاً أو يدل عليه أو يأتي بخبره، ولكن عنده من الطمأنينة والوثوق بربه ما لو قسم على أهل الأرض لكفاهم، حتى أبو بكر يقول له: (يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى قدمه لرآنا، فيقول له: لا تحزن إن الله معنا) {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ويقول: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ثقة عظيمة، من أين جاءت الثقة بالله؟ من انشراح الصدر.
شرح الله صدره وهو يسجن في الشعب ويحاصر ويقاطع ثلاث سنوات، لا يباع معه ولا مع أصحابه ولا مع بني هاشم ولا يشترى، مقاطعة كلية، محاربة كاملة، وبالرغم من هذا أكلوا ورق الشجر وتقرحت أشداقهم، وساروا يُخرجون كما تُخرج الإبل؛ لأنهم لا يأكلون إلا ورق الشجر، ومع هذا شرح الله صدره صلوات الله وسلامه عليه.
فإذا شرح الله صدرك أقبلت عليك الخيرات من كل جانب، وإذا أغلقت الموجة عليك، وضيق الله على العبد أقبلت عليه النحوس من كل جانب والعياذ بالله.