صفة النميمة ليست من صفات أهل الإيمان، ولا ينبغي للمسلم أن يتحلى بها، ولكن يجوز الكذب في ناحية واحدة؛ لأن الناس قيدوها قالوا: هي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، أما على جهة الإصلاح فلا بأس، إذا سمعت أن رجلين متخاصمين وأردت أن تسعى بالإصلاح بينهما، فإنه يجوز لك أن تذهب إلى الأول فتقول له: إن فلاناً يثني عليك ويذكرك بالخير ويتأسف على ما بدر منه نحوك، ويتمنى اللحظة التي يلقاك فيها فيعتذر إليك ويبتسم في وجهك ويحييك، ويريد أن يزورك، فيقول الثاني: هل هذا صحيح؟ إذا قال لك: احلف بالله ماذا تعمل؟ اتصلت أنا تلفونياً بالشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز؛ لأني وقعت في موقف محرج جداً والرجل يثق بي ثقة كبيرة، لكن يستغرب الكلام الذي قلته عن ذاك، يتصور أنه كلام غير صحيح رغم ثقته فيه، فأراد أن يحرجني قال: احلف بالله أنه قال هذا الكلام؟ فوقعت في موقفٍ عجيب، ليس لدي خيار إلا أن أحلف بالله، ماذا أعمل وأمري إلى الله فحلفت بالله قلت: والله إنه قال، ولكن بقيت هذه اليمين في قلبي مثل الجمرة، أردت خيراً فوقعت في يمينٍ غموس، ماذا أصنع يا ربِ! وجلست أستغفر الله طوال يومي، ماذا أفعل أقول: لا.
لو أني ما حلفت سيعرف أني كذاب، وبعد ذلك لا يثق بي مطلقاً ويستمر الأمر الذي أنا أردت أني أقضي عليه وهو قضية الفساد الذي حصل بين الرجلين خيارات صعبة لابد لي أني آخذ أقل واحد منها، فتحملت وحلفت، ولما جئت في الليل اتصلت بالشيخ عبد العزيز بن باز وأخبرته فقال: يمينك بارة وأجرك على الله وإن عادوا فعد، -أي والله يا إخواني- قال: ليس هذا من اليمين التي يعذب عليها الله عز وجل، هذه يمين أريد بها وجه الله، أريد بها لمّ شعث المسلمين؛ لأن الحقيقة كانت القضية بين الرجلين قد بلغت أوجها لدرجة أنه ما بقي إلا أن يتقاتلا، ثم افترقا، وكان بعضهم يتصور أنه وهو يفترق بالآخر أنه لن يلتقي به أبداً في حالٍ من الأحوال، لكن من فضل الله لما ذهبت لهذا الرجل الذي كان لا يصدق أن ذاك يقول فيه هذا الكلام قلت: فلان آسف ومتندم ويريد أن يراضيك بأي وسيلة ويعتذر عما حصل ويقول: أنك أنت الذي بدأت لكن هو يقول: إن الشر منه وهو يريد أن يلقاك ويريد أن يزورك وهو مستعد أن يأتي معي إليك فقط يخشى أنك ترده من الباب، قال: صحيح؟! قلت: نعم.
قال: احلف بالله أنه قاله؟ فما قدرت إلا أن أحلف وأمري إلى الله وبعد ذلك انتقلت من هذا ذهبت لذاك، ذاك لم يطلب مني يميناً، ووافق، ومن فضل الله قَبِل أن نزوره فذهبت أنا والرجل هذا إلى بيته وأصلحت بينهما وتعشينا عند هذا، وفي اليوم الثاني تعشينا عند الآخر والآن الإخوة من أحسن الناس، من فضل الله.
فالشاهد في الموضوع أن هذا ليس من الكذب وليس مما لا يجوز وإنما مما يجوز أن توحد الصفوف وأن تلم الشعث وأن تقرب القلوب عن طريق هذا.
تقول عائشة رضي الله عنها: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص بشيء من الكذب إلا في ثلاث: كذب الرجل على زوجته، وكذبه على الحرب، وكذبه في الإصلاح) كذبه على زوجته ليس يعني ذلك أن يأخذ حقوقها ويكذب عليها، يكذب على الزوجة يعني: يقول لها: إن طعامك جيد، ولو كان لا يساوي شيئاً.
وإن الثوب هذا لم أر مثله في حياتي ولو كان لا يساوي شيئاً، وإن الفراش نظيف والرائحة جميلة هذا مما يقرب قلبها لك؛ لأنه يبعث فيها عامل التنافس لتقديم أفضل خدمة؛ لأنك تزكيها، والإنسان دائماً يحب المدح، أنت عندما تدخل على الطلاب في المدرسة وتأتي إلى طالب بليد وتمدحه وتقول: ما هذا الخط الجميل! ما شاء الله! عجيب! أنت اليوم يظهر عليك أنك ذاكرت بالأمس، فيذهب الطالب يذاكر طوال الليل، لكن عندما يأتيك وهو مذاكر طوال الليل ويضبط الخط ويفعل الواجبات وتشاهده فنقول له: ما هذا الخط؟ فيقول الطالب: الله أكبر على هذا الأستاذ! كنت طوال ليلي أسهر عليها وآخر شيء يقول لي هكذا والله لا أفعل واجباً فالشاهد في الموضوع أن كذب الرجل على امرأته ليس كذباً في حقوقها، كأن يأخذ مالها أو يشرد عليها ويقول: ليس عندي شيء؛ لأنه يجوز كذب الرجل على المرأة، لا.
الكذب الذي هدفه الإصلاح وهدفه تقريب القلوب، أما أخذ الحقوق وانتهاك الحرمة والاعتداء فلا يجوز، فالمسلمة هذه لها حق عظيم عند الله؛ لأنك استحللت فرجها بكلمة الله، وهي عارية عندك أسيرة بين يديك، وأمانة وضعها أبوها وأهلها عندك، فاتق الله فيها، وأنت مسئول عنها يوم القيامة أحسنت أو ضيعت.
وكذب الحرب؛ يجوز في الشرع أن الإمام أو الحاكم أو القائد يوري ويموه على الأعداء فإذا كان -مثلاً- يريد الاتجاه إلى الخميس يذهب إلى تهامة، فالعدو الذي في الجهة هذه يقول: والله المعركة ذهبت هناك، لكن يجوز أنه يتجه كذا وبعد ذلك يدور، ويأتيهم من طريق آخر، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل؛ لأن الحرب خدعة، هذا هو الأمر الأول من أسباب عذاب القبر: النميمة.