بصائر وأنوار وهدايات لكن لا يراها إلا أهل الإيمان، وأهل العيون التي فتحها الله عز وجل على نوره وهدايته.
الحق شمس والعيون نواظر لكنها تخفى على العميان
الأعمى لا يرى الشمس، ولا يضر الشمس عدم رؤية الأعمى لها، ليس عيباً في الشمس ألا يراها الأعمى، فهي شمس يستفيد منها العالمين وإن لم يرها الأعمى.
الحق شمس والعيون نواظر لكنها تخفى على العميان
ويقول الآخر:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
هذه البصائر يقول فيها الله عز وجل في سورة الأنعام: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام:104] أي: قد قامت عليكم الحجج، ووصلتكم البراهين، فهي بصائر، وليست بصيرة واحدة.
أولاً: فطركم الله على الإيمان، يقول الله عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] .
تركيبة الإنسان تركيبة تتلاءم مع هذا الدين، ولهذا يقول أحد السلف: من تأمل خلقة الإنسان يرى أنه مفصل للعبادة.
أي: للركوع والسجود والقيام والقعود، كل هذه التفصيلات لتتلاءم وتتوافق مع عملية العبادة التي شرعها الله في هذا الدين.
فالله فطركم على الإيمان، ودائماً الإنسان إذا لبس اللباس المفصل على قدره يرتاح فيه، فالله فطر الإنسان وخلقه وهو الذي شرع هذا الدين وأنزله، فكأن هذا الدين لباس مصمم على مقاسات هذه الفطرة وهذا الإنسان، فإذا لبس الإنسان لباس الفطرة وهو الإسلام عاش سعيداً، وإذا لبس لباساً ليس له لا شك أنه يتضايق، مثاله لو لبست حذاءً ورجلك مقاسها [43] ولبست [40] هل ستشعر بضيق وعدم راحة؟ بدون شك ستشعر بعدم راحة؛ لأن رجلك ستكون محصورة ومتضايقة، أو لبست حذاء مقاس [47] فلا تستطيع أن تمشي لأنك تخبط فيها، لماذا؟ لأنك أعطيت رجلك غير المقاس الذي يصلح لها.
وكذلك اليوم الناس حينما يرفضون دين الله وشريعته وهدايته وكأنهم يلبسون ألبسة ليست مفصلة على حجمهم، فلا يسعدون أبداً، بل يعيشون في عذاب وضيق، ولكن الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها، يقول الله عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] بلى، يعلم تبارك وتعالى هذه الخلقة، والتركيبة، والفطرة التي فطر الناس عليها، يوائمها ويوافقها ويناسبها هذا الدين، فإذا جاء الدين وفق هذه الفطرة استراح الإنسان، وشعر بالسعادة والأنس والأمن والطمأنينة في الدنيا والجزاء العظيم في الآخرة بإذن الله، وإذا أعطاها لباساً غير لباسها لا يصلح، ولو حاول أن يغالط نفسه، مهما كان هذا اللباس، من دنيا، أو الملايين لا يشعر الناس بالسعادة؟ لأنهم يموتون بالعذاب، فهذه الملايين تكون سبباً في موتهم، يقول الله عز وجل: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} [التوبة:55] بالملايين {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] .
هل الأولاد لباس، بدلاً من أن يعيش الإنسان لنفسه فإنه يعيش لأولاده وزوجته؟ لا.
يقول الله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] فما هو البديل؟ هل المناصب أو الإمارة والجاه والسلطة بديل؟ لا، ليست ببديل، ربما تكون هذه سبيل عذاب على الإنسان في الدنيا قبل الآخرة.
إذاً: ما هو البديل الصحيح؟ إنه الإيمان والدين، فهذه بصيرة وهداية، بعد ذلك نزل الله كتاباً، وأرسل رسلاً، وجعل في الكون دلالات عليه، من أصغر جزء في المادة وهي الذرة، إلى أكبر جزء في الدنيا وهي المجرة، كلها دلالات على الله.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
هذا الشعر الذي ينبت في رأسك الآن، لماذا شعر رأسك هذا ينبت ويطول، وشعر حاجبيك هذا يقف عند حد معين من علم الشعرة أن تقف عند حد معين؟ ومن علم الشعر أنها تطول إلى حد معين؟ من علم الشعرة التي في الأجفان أن تصل إلى هذه المرتبة واحد سنتيمتر أو سنتيمتر إلا ربع أو نصف سنتيمتر وتقف، لو امتد شعر عيونك وصار طويلاً، ما رأيك كيف تكون؟ لا تستطيع أن تعيش.
إذاً: من هدى هذه الشعرة وعلمها أن تصل إلى هذا المستوى وتقف، وهذا الشعر يطول إلى مستوى أبعد من ذلك من هو؟ إنه الله {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] .
من الذي هدى هذه الأسنان، الأسنان التي تصعد وتنشأ في الفك العلوي وتنزل إلى تحت، لماذا لم تطلع إلى فوق، ومن الذي علم الأسنان في الفك السفلي أن تطلع إلى فوق؟ وبعد ذلك من علم هذا السن أنه يستمر في النمو إلى درجة معينة ويتوقف، فلا يطلع أبداً ولا يزيد هذا على هذا، كلها سواء، ما رأيك لو بقي السن على كيفه -مثل ما يقولون: إن الطبيعة خلقته- وطلع السن واستمر في النزول إلى أن يصبح السن في بطنك، والسن الثاني في رأسك، كيف تفعل؟ تظل تنشر أسنانك كل يوم، وكلما نشرته نبت لك سن، لا إله إلا الله! من علم السن هذا أنه ينبت، لا تطلع ثنية إلا وتحتها ثنية، وبعد ذلك ناب ويطلع تحته ناب، وبعد ذلك ضرس وتحته ضرس، لماذا؟ من أجل أن تستفيد منها، إذ لو طلع لك فوق الضرس وتحته ناب لا تستطيع أن تطحن الطعام، بل تخرب فقط ولا يطحن طعاماً أبداً، لو طلع من فوق قاطع -وهو الثنية- وتحتها ضرس تذهب لتقطع لا يمكن، لكن هذه تقطع وهذه تخرق وهذه تطحن، وبعد ذلك هذا الفك متقدم، ولذلك عندما تنظر إلى سنك تجد أن الفك متقدم على الثاني، لماذا؟ من أجل أن تقص مثل المقص، المقص يجب أن يختلف حداه، لو جئت إلى المقص وتركت السنتين سواء فإنه لا يقص.
وأوجد لك داخل هذا الفم هذا اللسان مثل المحرك، يأخذ الطعام ويقلبه ويطلعه وينزله، وهنا غدد تفرز اللعاب على الطعام بقدر الطعام، ولا يمكن لأحد أبداً أن يعض لسانه، كم لك تأكل من يوم خلقت؟ هل جاء يوم من الأيام -لعله نادر- غلطت بسبب نهم منك أو جشع، أو أكثرت من الأكل فعضيت لسانك، فإذا عضيته قلت: آه، ولا تذوق الزاد ذلك اليوم.
فما رأيك لو أنك كلما أكلت لقمة عضيت لسانك، لكان لسانك قد تقطع، من علم اللسان أن يتحرك هذه الحركة، ويمضغ ويبلع ويهضم ويقضم ولا يعضه سن؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو، كل شيء في الكون لو تفكرت فيه لوجدت أن فيه دلالة على الله عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام:104] .