كنا قد انتهينا إلى استقبال القبلة للصلاة، وتحدثنا عن تكبيرة الإحرام، فهي مأخوذة من لفظ الإحرام وكأن العبد يطوف حول الكعبة، وقلنا: إن إشارة العبد بيديه في تكبيرة الإحرام كأنما يلقي بها الدنيا خلفه ويستقبل الله بقلبه وبوجهه.
هناك مسألة في الطهارة، وهي فيمن لم يجد الماء، أي: فاقد الماء الطاهر في نفسه المطهر لغيره، أو الذي لم يجد من الماء إلا ما يكفي لشرب الإنسان، والحيوان المحترم، والحيوان المحترم هو الذي نأكله نحن ونستفيد منه، كالبقرة، والنعجة، وكذلك ما ينتفع به لغير ذلك، كالقطة وكلب الصيد وكلب الحراسة، فكل هذه محترمة.
فالماء إذا كان لا يكفي إلا هذا الحيوان فلا يصح أن أتوضأ به.
وانظر إلى حنان الإسلام، وانظر إلى عظمة الإسلام، فقد دخلت امرأة النار في هرة، والرجل المسرف على نفسه دخل الجنة في كلب.
ويقولون لنا اليوم: هناك جمعية الرفق بالحيوان، ومن قصصها أن كلباً حبس في شقة في إحدى شقق لندن، فجاء مفتش جمعية الرفق بالحيوان، وبعد وقت فتحوا الباب، فوجدوا أن صاحب الكلب كان يريد أن يخرج، فتعلق به الكلب، فتشاجر صاحب الكلب مع كلبه فعض الكلب في أنفه، لأنه من تربى مع شيء تخلق بأخلاقه، وكان الكلب ينزف، فالمهم أن القاضي حبس الرجل شهراً وغرمه مائة جنيه إسترليني.
وعندنا في الإسلام أحسن من هذا، فسيدنا عمر لقي رجلاً حمل حماراً أكثر من حمله، وكان الحمار لا يستطيع أن يمشي، فقال له عمر: حمار من هذا؟ فقال له: حماري، قال له: وما فوقه؟ قال: هذه أشياء لي، فقال: يا محمد بن مسلمة! حمله ما حمل الحمار.
فإذا بالرجل يسقط على الأرض، فقال له: أرأيت، أليس ذلك حراماً عليك؟! فهذا هو الرفق.
وكان سيدنا عمر يأتي إلى إبل الصدقة التي فيها جرب ويدهنها بالقطران بيده، ويقول: لو أن بغلة عثرت بالعراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لم لم تسو لها الطريق يا عمر.
فهذا هو الشعور بالمسئولية.
ففاقد الماء، والذي لا يستطيع استخدامه؛ لأنه بارد بشدة، أو لأنه حار بشدة، ولا يوجد إناء آخر، أو أراد شراءه ولكن من يريد أن يبيع الماء لي يريد أن يبيعه بثمن أكثر من الثمن المعقول، وهذا يسمى فاقد الماء حكماً، فكل هؤلاء يعدلون إلى التيمم، فالإسلام علمنا التيمم، فييمم الإنسان وجهه وكفيه.
ومعنى (تيمم): توجه، ولذلك يقال: يمم صوب البلدة الفلانية.
فأنت تتيمم من الصعيد الطاهر الطيب، فكل ما جنسه الأرض، وكل شيء أصله من الأرض يمكن أن أتيمم منه، وكذلك لو كانت الوسادة عليها تراب، أو السجادة، أو البلاط، أو أي شيء طاهر ليس فيه نجاسة.
فأضرب بيدي ضربة واحدة، ثم أمسح وجهي، ولو كانت الأرض ترابية أو رملية فإني أضرب بيدي وأنفضها.
فانظر إلى حنان الإسلام وعظمة الإسلام، إلى درجة أن الفقهاء قالوا: إن المسلم إذا وجد ماء قليلاً لا يكفي لاغتساله وهو جنب، أو كانت الحائض تريد أن تقوم للصلاة بعد أن ذهب الحيض وتريد أن تغتسل وكان الماء قليلاً؛ فإنها تعدل إلى التيمم.
والوضوء لا يرفع الجنابة، وإنما يرفع الجنابة الاغتسال أو التيمم.
فأوامر الإسلام يقال فيها: سمعاً وطاعة، فيوم العيد نفطر فيه ولا نصوم، مع أن اليوم الذي قبله من رمضان يحرم فطره، وكذلك الحجر الأسود نقبله، وكل ذلك لا ندري بعلته.
وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابت رجلاً منهم شجة، فأجنب في الليل، فسأل أصحابه فقالوا: لابد من أن تغتسل، فاغتسل فمات، فقال الحبيب: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟! إنما شفاء العي السؤال) فالذي لا يعرف لا حرج عليه في أن يسأل؛ لأن المتكبر بطبيعته لا يحب أن يسأل.
ويروى أن عمرو بن العاص رضوان الله عليه أصبح جنباً، وكان أمير السرية، ولم يكن يعرف الحكم، فتمرغ في الأرض وصلى بأصحابه، واستفتي الرسول فأجاز ما صنع عمرو.
وهناك صورة مثالية للتيمم، وهي أن أضرب الصعيد بيدي، وأضع كف يدي اليسرى على ظهر يدي اليمنى وأمرها على الظهر، وبعد ذلك على البطن، وأجعل بطن الكف الأيمن على ظهر الكف الأيسر، ثم أمرها على البطن، وبهذا أكون طاهراً، سواء من جنابة أو من حدث أصغر، وأصلي ما أشاء بهذا التيمم إلى أن ينتقض التيمم، ونواقضه نواقض الوضوء العادية، كخروج الريح.