لما وصلوا إلى أرض الحبشة، تضايقت قريش من هجرتهم فبعثوا وراءهم داهية العرب عمرو بن العاص ليأتي بهم، وكان ذكياً ذكاء خارقاً، ومما يستدل به على دهائه أنه دخل على ملك الروم، وهو أحد قواد الجيش الإسلامي الذي فتح الروم، هو وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ومعاوية بن أبي سفيان فلما دخل عمرو، ظن هرقل ملك الروم أن الرجل هو القائد العام للمسلمين لما رأى في عمرو من اللباقة والفطانة والفصاحة، فكلم هرقل من حوله بكلمة لم يفهم عمرو معناها إذ قال: إذا خرج هذا الرجل من باب البلاط فاقتلوه، إلا أن خادماً عربياً عند بلاط هرقل قال لـ عمرو: يا عمرو! كما أحسنت الدخول فأحسن الخروج.
وفي كلام الخادم إلغاز لا يفهمه إلا الدهاة، ومن الإلغاز في الكلام ما حدث لـ موسى بن عبد الله النصيري عندما كان أحد ولاة مصر في زمن أحد خلفاء الدولة العباسية، فغضب الخليفة العباسي على الوالي المصري وأراد قتله، لكنه يريد أن يأتي به إلى بغداد من أجل أن يقضي عليه، إلا أن أحد من في بيت الخليفة أدرك ما يريده الخليفة، فبعث له رسالة كتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم يا موسى إن وختم الرسالة وبعث بها إليه.
فلما فتح موسى الرسالة وجد فيها: يا موسى إن، فاحتار في أمر هذه الرسالة، وكان عنده جارية حافظة القرآن، ففطنت لمعنى الرسالة وقالت له إن صاحبك يريد أن يقول لك: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20]، وهو بدوره أرسل رسالة إلى صاحبه كتب فيها: يا موسى إنا، فلما وصلته عرف الرد {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].
ومثل ذلك قول الخادم لـ عمرو: يا عمرو كما أحسنت الدخول فأحسن الخروج، فرجع عمرو مرة ثانية إلى الملك وقال له: أيها الملك! لي مائة من أصحابي أنا أحد تلامذتهم وأريد أن يشرفوا بلقائك، فاغتر الملك بكلام عمرو وقال في نفسه: بدلاً من قتل واحد نقتل مائة، فأذن له الملك بالذهاب وأمر حاشيته ألا يمسوه بسوء، ونجا عمرو مما كاد له الملك، وهذا شأن المؤمن كيس فطن.